بدأت الحرب في السودان في 15 أبريل، مما دفع مئات الآلاف من السودانيين إلى الفرار من مناطق القتال والانتقال إما داخل البلاد أو إلى الدول المجاورة. تتحدث ليلى سراج، وهي مصورة ورائدة أعمال سودانية مستقلة، عن رحلتها سعيا للحصول على مكان آمن لنفسها ولعائلتها.
أجلسُ في مقدمة الباص المتوجه الى بورتسودان، انا ومعي الكثير من اهالي الخرطوم النازحين من الحرب الذين لم تستطع قلوبهم تحمل اهتزاز المنزل ولا اصوات الرصاص والدانات التي كنا نسمعها لأول مرة.
يشدو صوت محمود عبد العزيز داخل الباص قائلا:
"بفرح بيها،
البنيه الهايجه في أحضان خواطري البشتهيها،
بفرح بيها البنية اللامست ايد السعادة وضجت الأشواق عليها،
الحبيبة الايقظت نبض الحروف في قلوب صدر الكلام،
القريبة الزي لي في عيونها برتاح الهيام..
دي الشوقها نص الليل بصحي غامض الغمضة وجليها،
ليها بتحن القوافي بيها تندسى المراسي..
الجمال الشايفو فيها"
فأجدني اتجرد من الواقع وانا استمعُ الى كلماته وأتخيلني تلك "البنيه" التي يغني لها محمود بصوته العذب، فاسرق ابتسامة ناعمة من على ثُغري وانا اراقب الطريق، الطريق الذي جُل ما يحمله لنا هو الغيب والكثير من التساؤلات، ولكن الم تكن حياتنا ما قبل الحرب تحمل في طياتها الكثير من الغيب والتساؤلات ايضاً؟!
الساعة الان تشير إلى الثامنة صباحاً.مضت ساعتان على تحركنا من "الميناء البري"، كل خلية في جسدي في اقصى لحظة انتباه كما لم تكُن من قبل؛ بعد ذلك الرصاص الذي تعرضنا له صباحاً ونحن في طريقنا الى الميناء.
السيدة التي تجلس خلفي كبيرة في السن قد تصل سن السبعين، تكاد لا تستطيع تمالك نفسها وهي تتحدث بصوت يسيطر عليه القلق، وهي توجه الكلام الى حفيدتها ذات ال١٥ عاماً: "اسمعيني يا مفاز الارتكازات التلاته الفاتو ديل كلهم جيش لكن الارتكاز الجاي داك نعلو دعم! واي لكن يا مفاز انا حيلي مات خلاص."
لم تكمل السيده جملتها فوجدتُني امد رأسي مسرعة نحو زجاج النافذة البارد وقمتُ بإلصاق وجهي كطفلة صغيرة مليئة بالفضول لأتمكن من رؤيتهم، تاكدت من حقيقة ما رأته السيده فعدتُ الى وضعية "الخائف اللامبالي" بسرعة حتى توقف الباص امام تفتيش عناصر الدعمالسريع.
الحمدلله، لا أحد يستطيع سماع ضربات قلبي وإلا لتوقف الجميع عند مقعدي محتاراً من كل هذه الجلبة التي كانت تصدر مني.
لم يستغرق الامر وقتاً حتى تم تفتيش الشباب واعادتهم مجدداً الى الباص وهم يدخِلون بطاقاتهم الى مكانها في المحفظة ووجوهم تخلو من التعبير.ضرب أحد الدعامة الذين نزلوا من الباص الباب من الخارج بقوة مُحدثاً السائق: " يلا يلا اتحرك خلاص، تصلوا بالسلامة"
السلامة؟
السلامة هي كل ما نريده الان حقاً في هذه اللحظة وان يغمرنا الله بحفظه ورحمته ولُطفه عاجلاً غير آجلاً حتى نصل الى ما اسميناه جميعاً بـ"ارح نمشي حته آمان".
أخبرتُ امي بأن اول طفلٍ لي سأُسميه "أمان" فلن أجد اسماً يحمِلُ من معنى للحياة مثله. ضحِكت امي بنِصف ابتسامة فهي تدرك سبب ذِكري لهذة النظرية بعد رعب الرصاص الذي عشناه عند تحرُكِنا هذا الصباح، ردت بهدوء: "ان شاء الله يا ليلى، الله يفرحنا بيك ويديك ويفرجها علينا من الحاصل ده بس ".
نظرتُ اليها وعيني مليئة بحبلٍ من الأسئلة، التفتت إلي ولم تتفوه بشيء سوى بـ: "شيلي الصبر يا ليلى". هي تعلم كيف تقرأ عيناي وتُدرك انني ابحث عن بصيص املٍ ليس بحوزتها.
تمنيتُ لو ان لأُمي اجابات لتلك الاسئلة التي بدت ككُرة تقف في حلقي، ماذا عليها لو كذبت لتخفف على قلبي، هل من الأنانية ان اُطالبها بأجوبة اعلم انها لا تملكها؟ كانت امي تُحدِق في نافذة الحافلة وفي يدها "مسبحتها المفضلة" التي لطالما كانت تشغل يدها في كل وقت.
استطيعُ تذكُر خيبتِها عندما اخبرتنا ان "الاشتباك"، كما أسمته هي؛ لن يدوم طويلاً وان "الامور حترجع تاني" الى وضعها الطبيعي كما زعمت، ولم تكُن تتوقع ان يصل بنا الحال الى هنا.
٢٠٢٣ يونيو