النجاة في عالم الفن  3 د هل تكفي ريشة وقلم ليحيا فنان؟

جمال طالبي، فنان تشكيلي في الاستوديو الخاص به.
جمال طالبي، فنان تشكيلي في الاستوديو الخاص به. ©خاص

لم يكن العيش من الفن سهلاً أبداً في أي مكان في العالم. في الجزائر، يواجه الفنانون تحديات خاصة. ماهي طبيعة هذه التحديات وكيف يواجهونها؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه على ثلاثة فنانين جزائريين.

جمال طالبي فنان تشكيلي رافقناه في إحدى خرجاته إلى قرية من قرى تيزي وزو، شرق الجزائر العاصمة، حيث يقضي وقته بعيدا عن ضجيج المدينة، مقتنصا صور الطبيعة والجبال وتلك البيوت التي لا تزال صامدة أمام آثار الزمن.

يعبر جمال طالبي عن صعوبة العيش من الفن وحده، خاصة في الآونة الأخيرة. شارك جمال طالبي، خريج المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر منذ 21 عاماً، في العديد من المعارض الجماعية والفردية في الجزائر وخارجها، وفاز بعدة جوائز فنية محلية وإقليمية. إضافة للرسم، فهو نحات، مصور فوتوغرافي، ومصمم ديكور، وساهم في تصميم العديد من الأفلام الطويلة.

تحديات وفرص

عن سبب هذه الوضعية التي يعيشها الفنان الجزائري، يقول جمال طالبي أن ذلك مرتبط بالمنظومة الفنية ككل في الجزائر. ويشير الفنان إلى غياب سوق فني، وعدم امتلاك الفنانين "مناجير" يتولى الترويج لأعمالهم، وغياب مساحات العمل والمعارض، فلا يتم تنظيم أحداث مرتبطة بالفن التشكيلي إلا مرة أو مرتين كل 3 سنوات. أيضا غياب النقد الفني وافتقار الساحة الإعلامية لصحف ولصحفيين مختصين في الفن والنقد الفني. ما يجعل الفنان لا يستطيع أن يكسب دخله من فنه إلا القليل يعود أيضا لكون المجتمع الجزائري لا يمتلك ثقافة اقتناء الأعمال الفنية، وقلة عدد هواة جمع الأعمال الفنية، يضيف جمال طالبي. ليواصل حديثه مقترحا حلولا ."أولًا، نحتاج إلى سوق فني رسمي، نحتاج إلى صالات عرض، نحتاج إلى نقد فني، يجب أن يكون لدينا نظام يسمح برعاية الفنانين. لا يوجد لدينا معرض فني هنا في الجزائر يتعاقد مع الفنانين، بل ما يوجد بين الطرفين هو التزامات أخلاقية فقط. في بلد بمثل شساعة الجزائر لا نملك سوى حوالي عشرة معارض: معرضان في وهران، أربعة معارض في الجزائر العاصمة، معرض في تيزي وزو، ومعرض في بسكرة. وهذا يقابله آلاف الفنانين التشكيليين المحترفين والعصاميين وأولئك الذين يتخرجون من مدارس الفنون الجميلة والفنانون الذين يعيشون في الخارج واعتادوا الذهاب والمجيء".
جمال طالبي، فنان تشكيلي في الاستديو الخاص به.

جمال طالبي، فنان تشكيلي في الاستديو الخاص به. | ©خاص

تتشارك الفنانة فطيمة شافع نفس التحديات. بعد دراسات جامعية في مجال العلوم الزراعية، مارست التصوير الفوتوغرافي لعدة سنوات قبل أن تتوجه إلى المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، والتي تخرجت منها عام 2006. نشاطها الفني يشمل التصوير والتركيب، وغالبًا ما يتناول التاريخ والمجتمع والأعراف الاجتماعية بطريقة حميمية. لإحياء ذكرى والديها، عملت على أصولهما وثقافاتهما الفلاحية والشعبية. شافع حصلت على عدة جوائز، وعُرضت أعمالها في الجزائر ودول أخرى، لكنها لا تعتمد على فنها كمصدر رئيسي للدخل، بل على عملها كأستاذة في مدرسة الفنون الجميلة.

حصلت فطيمة شافع على عدة جوائز. فنالت عام 2003 الجائزة الأولى للرسم من مؤسسة عسلة، وحصلت على الميدالية البرونزية في معرض “حبات النساء المعذبات” عام 2006. و في عام 2008، فازت بالجائزة الرئاسية الجزائرية الأولى "على معاشي للمبدعين الشاب". كما أن أعمالها الفنية عُرضت في الجزائر وفي عدة بلدان أخرى. إلا أنها تقول أن أعمالها الفنية لا تشكل مصدر دخلها الرئيسي، بل عملها كأستاذة في مدرسة الفنون الجميلة. تقول فطيمة شافع أن هذه الوضعية جعلتها تعرف في بدايتها الفنية، قبل أن تصبح أستاذة بمدرسة الفنون الجميلة، صعوبات مالية "لكن لحسن حظي أن عائلتي ساندتني وشجعتني كثيرا سواء ماديا أو نفسيا".

طرق جديدة لمواجهة التحديات

في ظل هذه الوضعية، يلجأ الرسامون إلى طرق بديلة لعرض أعمالهم، وحسب جمال طالبي فأفضل واجهة للتعريف بالأعمال الفنية هي شبكات التواصل، والتي يقول أنها ومنذ 2009 ساعدت الفنانين كثيرا وفتحت لهم الأبواب على المستوى العالمي. توجد في الجزائر منصتين إلكترونيتين لبيع اللوحات الفنية. "ألواني" والتي أطلقتها مؤسسة خاصة في 2019، و"لوحاتي" والتي أطلقتها الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي عام 2021. المنصتان وبالرغم من مهنية القائمين عليها، بشهادة الفنانين، إلا أنها لم تحققا نجاحا وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية التي تلت الجائحة، وكذلك لمشاكل متعلقة بالتجارة الإلكترونية في الجزائر. وهي نفس الوضعية التي تعيشها فطيمة شافع من جهتها أيضا. فتقول أنها ولعرض أعمالها فإضافة لقاعات العرض، فتعتمد كثيرا على شبكاتها المهنية ومعارفها لتقديم وعرض أعمالها. كما أن شبكات التواصل الاجتماعي، والمنصات المختصة ببيع الأعمال الفنية تتيح لها هذه الفرصة في ظل شح الأحداث الفنية في الجزائر. عكس التظاهرات والحفلات الموسيقية، على سبيل المثال، أين يمكن إيجاد رعاة وممولين، يعاني الفنانون التشكيليون لإيجاد ممول حسب جمال طالبي. الدعم الذي ينتظره الرسامون ليس فقط ماديا، بل أيضا في تنظيم تظاهرات دولية تسمح للرسامين الجزائريين الاحتكاك بنظرائهم الأجانب حسب محدثنا الذي يقترح تنظيم بيع للوحات والأعمال الفنية في المزاد كما هو معمول به في سوق الفن في العالم، ما سيسمح ببيع الأعمال الفنية بقيمتها الحقيقية.

إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للفنون البصرية فهو لا يختلف بالنسبة للآداب، خصوصا المكتوب باللغة الأمازيغية، ثاني لغة وطنية ورسمية في الجزائر.
الكاتب حسين لوني.

الكاتب حسين لوني. | ©خاص

الكاتب والشاعر حسين لوني من بين الأسماء التي برزت في العشر سنوات الأخيرة في مجال الكتابة بالأمازيغية. يقول لنا أن الأدب الذي يكتبه لا يكسب منه المال، بل بالعكس هو من يدفع المال على ما يكتبه، لأنه يحب ما يقوم به. لم يدرس حسين لوني اللغة الأمازيغية حتى ولو كانت لغته الأم التي يتكلم بها، بل تعلم كتابتها وقواعدها لوحده ومن دون مدرس شيئا فشيئا، قبل أن يكتب بها أشعارا، قصصا وروايات، ويترجم إلى حروفها نصوصا من لغات أخرى. بعد مشاركات في مهرجانات ولقاءات شعرية عديدة في الجزائر، نشر الكاتب والشاعر في 2013، أول رواية له بالأمازيغية والتي عنونها "Tfuk ur tfuk ara" (انتهت لم تنته بعد). ثم تلتها روايات وترجمات أخرى، وقد حازت أعماله الأدبية على جوائز كثيرة على الصعيد الوطني. عام 2018، أطلق الكاتب مع أصدقاء له دار نشر "Imru" ما ترجمته "القلم"، وهي الدار التي لم تعمر طويلا إذ قام بإغلاقها عام 2021. عن هذه التجربة في النشر، يقول الكاتب أن ما جعل الدار تتوقف هو ارتفاع المصاريف التي يقابلها شح في إيرادات بيع الكتب. "وجدنا أنفسنا نحن من يتكفل بكل شيء يسبق نشر الكتب وبعد النشر نوزع الكتب التي نصدرها على مكتبات بيع الكتب، وننتظر أن تباع كي نقبض ثمنها لان أصحاب المكتبات لا يشترون منا الكتب، خصوصا تلك المكتوبة بالأمازيغية". دار النشر "Imru" ليست الوحيدة التي أغلقت في الجزائر بعد جائحة "كوفيد"، فمثلها دور نشر أخرى ومكتبات عرفن نفس المصير.

كحل لهذه الوضعية المستعصية أين يعرف الكتاب عزوفا، ومن أجل حماية سوق الكتاب، يقترح حسين لوني: "لو أن الدولة ومؤسساتها تشجع الكتاب، ليس فقط بدعم مباشر لدور النشر، بل باقتناء الكتب لمختلف مكتبات الإدارات والمؤسسات العمومية، لكان بإمكان المؤلفين والناشرين أن يعيشوا بنشر الكتاب". يقول الكاتب والشاعر حسين لوني أنه لا يعتمد على فنه كمصدر أساسي للدخل. فلا عائدات مبيعات كتبه ولا الجوائز التي حاز عليها تضمن له العيش. فهو يعتمد على عمله في مجال الأنفوغرافيا وتصميم الكتب، كذلك التصحيح والتدقيق اللغوي إضافة إلى الترجمة. "لا أكسب قوت يومي بفضل الفن، وإذا كنت أكتب فدافعي الوحيد هو كوني أريد أن أقوم بذلك، حتى ولو كنت أنا من يدفع المال في سبيل الكتابة فلا أبالي ما دمت أحب ما أقوم به".

بالرغم من التحديات التي يواجهها الفنانون في الجزائر، إلا أن هناك خطوات يمكن اتخاذها لتحسين الوضع. دعم الدولة والمؤسسات المختلفة للكتاب والفنانين، وفتح أسواق فنية جديدة، وتنظيم مزادات ومعارض، كلها حلول قد تفتح أبوابًا جديدة للفنانين ليتمكنوا من العيش بفنهم وتحقيق الاستقرار المادي. في نهاية المطاف، الأمل في تحسين الظروف يبقى حافزًا يدفع الفنانين لمواصلة إبداعهم ومساهمتهم في إثراء الثقافة الجزائرية.