مصر التي شهدت على مدار عقود الكثير من الهجرات لأسباب مختلفة؛ منها التي كانت تأتي إلى هنا مع فترات الاحتلال أو التي جاءت هربًا بسبب الحروب أو هربًا من سوء أحوال بلدانهم أو طالبي اللجوء إلى دول أخرى، ناهيك عن المقيمين بسبب العمل أو الدراسة أو الزواج من مصريين، وهي الأسباب التي قد نفترض معها زيادة في تقبل الآخر ودمجه وليس العكس.
في الأيام الأولى من وصول روز كوكو إلى القاهرة، قادمة من جنوب السودان قبل ثلاث سنوات، كان يعتصر ذهنها الكثير من الأسئلة حول ما سيكون عليه شكل حياتها في مصر؛ هل ستستطيع التكيف هنا والبقاء كما تخطط أم ستضطر للبحث عن بلد آخر للانتقال إليه؟كانت الإجابات التي تأتي إلى ذهنها لا تبشر بالخير، خصوصًا بعد الحادث الذي وقع ليلة وصولها، حينما رمى عليها سائق توك توك "طوبة" ارتطمت برأسها، وتعليق خالتها –التي تسكن في مصر منذ ثماني سنوات - وقتها على الحادث بقولها: "انتي لسة شوفتي حاجة"، مما زاد في قلبها الريبة.
تغيرت يومها كل حسابات روز، فقبل مجيئها إلى مصر، كان كل ما فكرت فيه أنها قادمة إلى دولة تشترك مع وطنها في الكثير من الأمور؛ فهي أفريقية عربية، بل في يومٍ كانت الاثنتان دولة واحدة، فضلاً عن كون المصريين "مرحين" و"ودودين" والتكيف في أوساطهم لن يكون صعبًا، أو هكذا صورت لها الدراما المصرية التي لا تنقطع عن القنوات السودانية.
لكن ما حدث تلك الليلة وكلمات خالتها كان مجرد بداية لتغيير هذه الأفكار لدى روز، فعلى مدار السنوات الماضية بات شعورها بالغربة يترسخ، بل أصبحت تعتقد أنها حتى وإن أقامت في مصر مدى الحياة لن يتقبلها المصريون، وستظل غريبة أو "ضيفة" طالما أنها لا تشبههم أو كما تقول هي: "لونها مختلف عنهم".
روز كوكو من جنوب السودان مع ابنها يوسف | ©معهد جوته / آية نبيل
هذا الاغتراب الذي تشعر به روز أو غيرها من ذوي الجنسيات المختلفة المقيمين في مصر، رغم اختلاف درجته وشكله من شخص لآخر، قد يبدو غريبًا حين نتحدث عن مصر التي شهدت على مدار عقود الكثير من الهجرات لأسباب مختلفة؛ منها التي كانت تأتي إلى هنا مع فترات الاحتلال أو التي جاءت هربًا بسبب الحروب أو هربًا من سوء أحوال بلدانهم أو طالبي اللجوء إلى دول أخرى، ناهيك عن المقيمين بسبب العمل أو الدراسة أو الزواج من مصريين، وهي الأسباب التي قد نفترض معها زيادة في تقبل الآخر ودمجه وليس العكس كما تشير تجربة روز.
ولا يختلف وضع المهاجرين على المستوى الرسمي في مصر، والتي تعزز سياساتها أيضًا صعوبة دمجهم في المجتمع؛ فالقانون المصري لا يمنح طالبي اللجوء الإقامة الدائمة أو الجنسية.
وتعد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالقاهرة الجهة الوحيدة التي يمنحها القانون حق تسجيل طالبي اللجوء لمنحهم الإقامة حتى توفر لهم بلدًا بديلًا ينتقلون لاحقًا إليه، وكان آخر عدد أعلنته في يوليو ٢٠١٧ عن طالبي اللجوء المسجلين لديها في مصر حوالي ٢١٠ آلاف شخص.
ولا تستطيع المفوضية توفير الإقامة البديلة لكل المُسجلين فيها في دول أخرى، خصوصًا في ظل زيادة أعداد اللاجئين الوافدين إلى مصر من الدول العربية أو الأفريقية التي تشهد اضطرابات أو حروب. بل إن هناك الكثير ممن يحملون لفظ لاجئ منذ زمن بعيد، حتى وإن كان منهم من يقيم في مصر لعقود طويلة أو كان مولودًا فيها ولم ير سماء بلد غيرها، ويُعد الاستثناء الوحيد هو أن تتزوج اللاجئة من مصري، فهنا يحصل الأبناء على الجنسية المصرية وليس الأم، أما إذا حدث العكس فلا يحصل الأبناء من جنسية والدتهم إلا اسمها في شهادة ميلادهم.
وتدفع المشكلات التي يواجهها اللاجئون في مصر الكثير من المهاجرين إلى اللجوء للحصول على أنواع أخرى من الإقامات التي يسمح بها القانون، مثل تلك الدراسية أو الاستثمارية وهي الأكثر شيوعًا بين أبناء الدول العربية القادرين على إقامة أنشطة تجارية، أو بمجرد إيجاد فرصة عمل. وتقدر السلطات المصرية عدد الأجانب الموجودين في مصر بحوالي خمسة ملايين شخص في ٢٠١٥.
وما بين هذا وذاك، تبدو جملة "كلنا أخوة" والتي تتردد دومًا عند الحديث عن المهاجرين على ألسنة المسؤولين بلا معنى، بل تثير التساؤلات حول مدى إدراكهم للأوضاع الحقيقية التي يعيشها هؤلاء في مصر، خصوصًا من بات يعتبر فيها موطنه الجديد حتى وإن كان لا يحمل في أوراقه جنسيتها.
"أشعر بالدونية"
أمام محطة مترو حدائق المعادي، وتحديدًا في الطرف الشعبي الفقير من هذا الحي الراقي، قابلتُ روز، كي تصطحبني إلى منزلها الحالي.
بخطوات سريعة كانت روز تخترق طوابير المصطفين حول محال السوق المنتشرة في الشوارع المحيطة بمنزلها، وقد ظهرت بينهم الكثير من الوجوه الأفريقية بشكل يوضح تركيز إقامتهم في هذا الجانب من المدينة، حيث يناسب الظروف الاقتصادية المنخفضة لأغلبهم. ومع زيادة الزحام كانت سرعة روز تزداد، وحينما سألتها عن السبب، ردت: "حتى لا يضايقنا أحد".
كانت روز تعلم أنها حتى وإن كانت تشبه المصريين في شكل ملابسها أو أنها باتت وجهًا مألوفا للباعة والجيران في هذه المنطقة، إلا أن لون بشرتها يجعلها تظل في عيون من يعرفها أو لا يعرفها شخصًا غريبًا أو "مجرد ضيفة" كما تصف نفسها، وهو ما قد يُعرّضها لمضايقات في الشارع من بعض الأشخاص.
تخلو حياة روز من أية علاقات اجتماعية مع مصريين. حتى الجيران، قليلٌ منهم يتبادلون معها التحية رغم مقابلتهم معها وجهًا لوجه، ولا توفر لها المدرسة أو الكنيسة الاختلاط مع المصريين الذين يدرسون ويصلّون في أوقات مختلفة عن السودانيين، وهي تشعر أن ذلك نابعٌ من تعاملهم بدونية مع أصحاب البشرة الداكنة، لذا تقتصر شبكة علاقاتها على أقاربها الموجودين هنا والذين بدورهم أيضًا يقتصرون على معارفهم، ويقيمون في أماكن معروفة وقريبة من بعضهم البعض، أو كما تعلق هي: "كي يتونس بعضنا بالآخر، وإذا حدث لأحدنا أي شيء نستطيع أن نسانده".
القولبة
ولا يخرج من هذه الدائرة إلا القليل، فكلما كنت تتحدث اللهجة المصرية وتستطيع أن تشبه المصريين في لون البشرة وعادات وتقاليد المنطقة الموجودة فيها، قد يتحسن الوضع إلى حد ما. ولا شك أن هذه الأمور قد تختفي تمامًا في الأماكن ذات المستوى المادي المرتفع تحديدًا، كما تقل في المدن عن الريف الذي تسيطر عليه العديد من المعايير التي تجعل اندماج ذوي الأصول غير المصرية داخله في غاية الصعوبة؛ مثل النسب وحجم الثروات والتقاليد المتوارثة، والتي قد لا تتوافر لديهم.
لم تنجح روز في هذا الاختبار، فهي لم تستطع أن تتخلى عن كل ثقافتها القديمة رغم اكتسابها الكثير من الأمور المصرية في ذات الوقت. كما أنها لا تستطيع أن تنقل إقامتها لإحدى تلك المناطق التي لا تنظر إلى اختلاف جنسيتها. تقف في المنتصف؛ لا تستطيع التقدم تجاه المصريين الذين لا يعترفون بها ولا التراجع إلى بلدها الذي هربت منه بسبب الحرب والاضطهاد والتوتر.
وتزداد فجوة الاختلاف مع باقي الجنسيات من أصحاب البشرة الداكنة أو الوجوه الآسيوية أو الملامح الغربية حتى وإن كانوا مولودين هنا أو من ذوي الأصول المختلطة. يقول علي حسن، ذو الـ ١٧ عامًا، والذي يعيش مع والده المصري ووالدته الماليزية، أنه يواجه دومًا سؤالاً حول هويته الحقيقية، بسبب ميله إلى ملامح والدته، ويضيف: "كان الأمر بشعًا في المدرسة. أشعر أني مطالب دومًا بالقيام بمجهود مضاعف لإثبات هويتي المصرية أمام من حولي حتى يقتنعوا بذلك".
ضغوط اقتصادية
على عكس روز وعلي، لا تواجه فاطمة المطهر، ذات الأصول اليمنية، نفس المشكلات السابقة في التعامل مع المصريين في الشارع؛ فلون بشرتها وحجابها يجعلانها تشبه أغلبية المصريات، فتبدو وسطهن مألوفة، إلى جانب إتقانها للهجة المصرية، لذا لا تنكشف أصولها المختلفة غالبًا إلا في التعاملات الرسمية.
في بداية فترة إقامة فاطمة في مصر كانت هويتها اليمنية تظهر أحيانًا بسبب اللهجة، لكن ذلك لم يكن يسبب لها مشكلة، بل كان المصريون يتعاملون معها بترحاب، مكررين دومًا أنها من دولة عربية "شقيقة"، وهو نفس الخطاب الذي يشيع تقريبًا هنا تجاه النازحين بسبب الحروب من الدول العربية الأخرى مثل سوريا والعراق وليبيا وفلسطين. وهنا تظهر المفارقة، فعلى الرغم من عروبة السودان، إلا أن ملامح مواطنيها الأفريقية تحرمهم من هذه المعاملة.
فاطمة المطهر مع ابنها | ©معهد جوته / ساندرا وولف لكن بعد عدة سنوات من الإقامة في مصر، كان لفاطمة رأي آخر، تقول إن هذا الشعور بالترحاب هو ما يظهر في العلاقات السطحية فقط، وما يلبث أن يختفي في العلاقات العميقة، خصوصًا على المستوى الاقتصادي.
فمع تدهور الأوضاع الاقتصادية في مصر، بدأت فاطمة تشعر بالتغيير في التعامل معها، حيث أصبح بعض المصريين ينظرون إليها وغيرها من الأجانب المقيمين بمصر على أنهم ينافسونهم في مصادر رزقهم المحدودة أو أنهم يتسببون في زيادة أسعار المناطق التي يسكنون فيها مثل الإيجارات أو وسائل المواصلات أو المبيعات. وبالطبع يزداد الأمر حدة كلما كان المهاجرون أنفسهم ذوي مستوى اقتصادي منخفض ولا يستطيعون أن يقوموا بمشروعاتهم الخاصة.
تعتمد فاطمة على العمل الحر، والذي لا يوفر لها حياةً مستقرة هي في أمسّ الحاجة لها بسبب كبر عمر ابنها ربيع، والذي بدأت مع ولادته كلّ تخوّفاتها من مستقبل إقامتها هنا. تقول: "ذات مرة تحدّث ببعض الكلمات ذات اللهجة اليمنية أمام أصدقائه في المدرسة فما كان منهم أن التفتوا وأخبروه أنه غير مصري، وسألوه لماذا أنت هنا؟ وحينما سألني لم أعرف كيف أجيبه، فأنا لا أريد أن يشعر بتضارب في هويته بين البلد التي يعيش فيها وموطنه الأصلي، ولا أعلم إلى متى سأستطيع أن أحافظ له على ذلك أو على أنه سيحصل على فرصة متساوية مع أبناء المصريين في الدراسة والعمل، فأوراق دخوله المدرسة وحدها ألزمتني بالكثير من الإجراءات المعقدة، وحسب ما أرى حولي من أبناء المهاجرين الذين يعيشون هنا قبلي، فنسبة تحقق ذلك منخفضة للغاية، ولا أملك المال الكافي لجعله يكتسب ذلك وحده".
الحلقة الأضعف
تقول فاطيمة إدريس، المديرة التنفيذية لجمعية تضامن المجلس المصري متعدد ثقافات اللاجئين، أن ازدياد ضغوط الحياة في مصر يجعل من المهاجرين الحلقة الأضعف وبالتالي يزداد تهميشهم في المجتمع. فاطيمة إدريس، المديرة التنفيذية لجمعية تضامن المجلس المصري متعدد ثقافات اللاجئين | ©معهد جوته / آية نبيل
تعمل فاطيمة مع حوالي ٣٠ ألف لاجئ سنويًا، كانت هي نفسها واحدة منهم قبل ١٨ سنة حينما جاءت من شمال السودان لتُقرر الاستقرار في مصر وتبحث عن أصولها المصرية العائدة لجدها من محافظة قنا جنوب صعيد مصر، لتكتسب في النهاية الجنسية وتقرر الإقامة.
تقول فاطيمة: "كانت الضغوط وقتها أقل، كان المصريون أكثر ترحيبًا بالمختلف عنهم، ففي رأيي ليست لديهم مشكلة مع الآخر وإنما مع أنفسهم شخصيًا".
وتضيف: "استطعت الاندماج، فأنا أشبه أبناء النوبة المصريين، ولأن أولادي ذوو بشرة بيضاء لا تواجههم مشاكل كثيرة، لكن حينما نجتمع سويًا تبدأ التساؤلات وكأنهم ليسوا أولادي، لدرجة أن إحدى المدرسات في مدرستهم ذات مرة قالت لصديق ابني "انت أبيض وحلو"، وهو ما اضطرني للتدخل حتى لا أرسّخ لديهم ما هو شائع هنا من أن التفوق لصاحب البشرة الفاتحة فقط".
تعتبر فاطيمة أن الحياة في مصر يغلب عليها القولبة، فإذا اختلف الشخص عن هذا القالب تحدث المشكلة، تقول: "أعرف الكثير من السيدات اللواتي اضطررن إلى ارتداء الحجاب حتى لا يواجهن مشكلات في المناطق التي يعشن فيها لأن شكلهن مختلف".
اغتراب
بينما تفكر روز في الهجرة إلى دولة أخرى هربًا من هذا الاغتراب، وتتردد فاطمة في قدرتها على تحمله، يقف علي في المنتصف؛ يحمل الهوية المصرية لكنه متأزّمٌ من شكله ويشعر أن من حوله لا يتقبلونه. لا يعرف كيف يتخطى هذا الشعور، يقول: "أشعر أني سأظل غريبًا دومًا حتى وإن فكرت في الرحيل أيضًا من هنا".
٢٠١٨ سبتمبر