أطراف وهمية
مقال من كتابة: شاه نُمير أحمد عباسي
تغرس أغلب المدارس في باكستان في التلاميذ أن أصل الهوية الإسلامية في جنوب آسيا يكمن في مجيء محمد بن قاسم. إن بدء دروس التاريخ لدينا من هذا الغزو ليس إشكالية في حد ذاته لكونه قصة من وجه واحد فحسب (فهي قصة مُبالغة في التسطيح وتخلف فرضيات زائفة عن الأفراد والمجموعات والأماكن)، بل لأنه يُرسخ إحساس مُسمم وقومي يخلق تنافرًا فيما بين الناس الذين لم يكونوا مدركين لاختلافاتهم المُفترضة.
من Text by Shah Numair Ahmed Abbasi
حقيقة إن المنطقة الذي نُعرِّفها حاليًا على أنها "جنوب آسيا" قائمة بالفعل منذ أكثر من ألف عام مع مستوطنين من البشر في أغلب فترات تاريخها. أما القومية والجنسية والهوية فهي نُظم وهياكل حديثة والتي بينما تغذي الحس بالارتباط والتضامن فيما بين المجموعات الأصغر تُنشئ، على العكس، شروخًا فيما بين مختلف الأقاليم وقاطنيها. وقد عزز كل من النفعية والأمن والحس المغروس بتمييز الذات مقابل الآخر بناء الحواجز والحدود والتي لم تُعق التفاعل فحسب، بل عطلت الهجرات البشرية والحركات بين القومية التي نشأت في غيابها وجرت بسلاسة على مدار قرون.
دفعت هوية سابا قيزيلباش الهجينة، كونها وُلدت في لاهور ونشأت في الإمارات وعايشت تنقلات جغرافيًا عدة مرات، دفعتها لئلا تضع المفهوم المُجرد للوطن محل تساؤل فحسب، بل تتفحص إلى أي مدى تكون حركة الإنسان مُراقبة ومُتغيرة ومُقيدة. يتمحور عملها الحالي حول استقصاء الهجرات البشرية والجغرافيا السياسية في أصقاع منطقة جنوب آسيا. وينشأ أغلب المحتوى خلف عملها من خبراتها وتاريخها الشخصي كفنانة مثل زياراتها المتكررة إلى سنغافورة ولاهور، وقصص هجرات أسلافها ، وحتى الأصل الخفي للقبها والذي يبدو كأنه من وسط آسيا.
تنطوي الرسومات الفوتوغرافية الضخمة على الكثير من التفاصيل. ويعتبر توظيف الفنان للجرافيت لإعادة تشكيل المناظر نوع من التشريح لفهم وتحليل السياسات الخاصة بالمحيط المألوف والذكرى التي تحتوي عليها آثارها.
تحمل رسومات قيزيلباش القدرة على طي الزمن، حيث يُترك المُشاهد المحتار ممزقًا ولا يستطيع يحدد ما إذا كانت المشاهد من ماض غابر بعيد أم مُستقبل تنبؤي. علاوة على ذلك، وفي ضوء الأحداث الراهنة مثل انفجار بيروت المروع وعمليات الإغلاق العالمية بسبب جائحة كورونا، فإنه من المقلق الشعور بمدى انتشار الفراغ والأنقاض المتداعية. تمر المشاهد كتوثيق مُفصل وكذلك كخيال غريب. فهي تبدوا مألوفة وكما لو أنها تصور الواقع، ولكنها تُلمح كذلك إلى نموذج متحول وينتمي لعالم آخر. تطرح قيزيلباش في رسوماتها إمكانيات متعددة. فمن خلال تجميع عدد لا يُحصى من الفرضيات تحبك الماضي بالمستقبل، وتدمج الواقع والخيال لتبدع خبرة وهمية تمت رؤيتها.
إن الأماكن والمعالم الموصوفة في رسوم قيزيلباش هي في الأساس تلك الأماكن التي تأثرت بشدة بخطوط ترسيم (الحدود). حيث خضعت هذه المعالم إما لتغيير في الاسم أو المذهب أو الغرض. تعيد الفنانة حكاية قصص الانفصال والمآسي التي إما مرت بها هذه الأماكن أو شهدتها وتقاومها حاليًا. على سبيل المثال ينبع نهر نيلام/ كيشينجانجا في منطقة سنونانمارج بكشمير الهندية، ويجري في باكستان. ويتأرجح النهر في تعرجه حول خط الحدود فيما بين هويتين. وعليه فقد تم تحويل طبيعة النهر الواهبة إلى سلاح من قبل كلا الدولتين (الهند وباكستان) في سباق قومي متطرف لبناء السدود ومحطات الطاقة المائية وكل ذلك على حساب القرويين المقيمين بالقرب من النهر، حيث تم تهجيرهم حتى تُباشر عمليات البناء وحرموا من المزايا الفورية لتلك العتبات (السدود).
تهتم قيزيلباش كذلك بالمناطق التي حول الحدود والتي يُنظر لها أنها خطوط التحكم. فمن وجهة نظرها لا تحمل هذه المناطق التي لا تنتمي لأحد جنسية ولا مذهب ولا ملكية. وينبع شعور بالهجران من هذه الأماكن، أي سلسلة من الماضي والحاضر المنقطعان والمتصلان. فبدون فاعلين حاضرين، تُظهر هذه الأماكن نوع من الإشغال السابق والنشاط الإنساني الماضي. وتدل هذه الطوبوغرافيا المخلية من البشر على مستقبل يتم فيه تحسين أو استبدال أو تجاوز للأجساد. ولم تعد هذه البلدات الشبحية تُعرَّف بالكائنات أو الفيزياء القائمة على الكربون. هناك حس لا يُمكن إنكاره بالتجريد، وهو ما يمكن استنباطه من التراجيديات التي تجمع هذه الأماكن. وتستخدم الفنانة هذه التراجيديات كأيقونوغرافيا ترثي بها الخسارة الفردية والجماعية.
إن الهجرة والحركة شيء جوهري بالنسبة لهويات جنوب آسيا. وبينما تدور الكثير من ذكريات الهجرة الجنوب أسيوية حول الصدمة والخسران وأحداث الحياة القاسية، فإن هذه الذكريات تحمل كذلك المودة والشوق والتصالح. تقتفي قيزيلباش أغلب دروب الهجرة والتجارة التاريخية تلك، حيث تمسح الحواجز وأي حضور إنساني أو بروتوكولات لتيسر حركة إنسانية دون عوائق. يُمثل على سبيل المثال طريق "طورخام إلى لاهور" و "واجه إلى كالكوتة" الجزء الثاني والثالث في سلسلة واصلت فيها الفنانة رسم خارطة لواحد من أطول وأقدم طرق أسيا وهو طريق "Grand Trunk". إن هذا الطريق البالغ من العمر 2500 عام
ويمتد من كابول إلى شيتاجونج ويربط بين وسط وجنوب أسيا مُقسم اليوم فيما بين أربع دول. ترسم قيزيلباش خريطة لهذه الطرق وتتجول في هذه المساحات بنفسها. وتحكي فيزيلباش في عملها "كراتشي إلى لاهور" كيف اضطر اللاجئون الراغبون في الهجرة إلى باكستان بعد حرب 1965 من الهجرة بداية إلى شرق باكستان قبل سلوك طريق ساحلي شاق لتنتهي رحلتهم في كراتشي بغرب باكستان.
تضع قيزيلباش في إطار واحد ساحلين لكل من شيتاجونج وكراتشي لتُسرِّع وتُيسر النزوح الكارثي. يوجد في وسط التركيبة منحدر يدعو المشاهد للسير إلى داخل المشهد وأخذ موقف محايد. تمكننا قيزيلباش من مراقبة التاريخ المُحبط والحزين كمتفرج مُحايد.
كما تُشجع قيزيلباش المسافرين والأشخاص المُهجرين على مواصلة التحرك داخل ما يبدو كأنه متاهة. ولا تبدو الصور كأنها جامدة، ولكن بدلًا من ذلك يعكس النشاز الناتج عن المواقع المدمجة مع بعضها حس بالعجلة ولا يشجع على أية استراحة. فهذه ليست مقاصد يصل المرء إليها، ولا هي نقاط انطلاق، فهي تشبه المناظر الخاطفة التي يراها المرء من مركبة تتحرك، فنجد تسلسل الصور عبارة عن لقطات مأخوذة من منتصف الرحلة. يتم تعزيز هذه السلسلة المستمرة من الحركة من خلال الشبكة المعقدة من الطرق والأنفاق والجسور والأنهار ومسارات السكك الحديدية التي يبدو أنها ليس لها بداية ولا نهاية.
ألقيت بعض هذه الرسومات في الراتنج. تستخدم الفنانة هذا الشكل القديم من الطلاء الواقي ليحافظ حرفيًا على الروايات شبه التاريخية المُفعمة بمشاعر الإجلال والشوق والكآبة. باستخدام الرسم كبحث استقصائي ، تعيد سابا قيزيلباش فتح الحسابات التي لم يتم حلها وتنقب في الأرشيفات الحية والذاكرة المادية لتذكر قصص عبور الحدود. كما تؤرخ العواقب التي لا تموت لأسلوب السياسة الثقافية والقومية والجغرافيا البشرية. تفترض قيزيلباش أيضًا العديد من الأشكال المحتملة لمستقبل ديناميكيات الهجرة والتنقل والمواطنة المتغيرة باستمرار على خلفية عالمية حيث أصبحت الذات مفهومًا أكثر انسيابية وتعقيدًا.
إن شاه نُمير أحمد عباسي فنان متعدد التخصصات وكاتب مقيم في كراتشي.