ملامح المدن: دريسدن   بين الفخم والجاهز

لقطة من بين أزقة حي دريسدن التاريخي وآثاره المعمارية التي كانت أحد الأسباب وراء تلقيبها بـ "فلورنسا نهر إلبه" أو "فلورنسا الشمال".
لقطة من بين أزقة حي دريسدن التاريخي وآثاره المعمارية التي كانت أحد الأسباب وراء تلقيبها بـ "فلورنسا نهر إلبه" أو "فلورنسا الشمال". تصوير (مقطع): © أدوبي

الباروكّ... التزمُّت... قلة الكلام؟ أهذا ما يقولونه عن دريزن وسكانها؟ لعاصمة ساكسونيا جانب حديث وبديل وغير متوقع. ستصحح كاتبتنا، كادِّي كوتس، المفاهيم المغلوطة حول "فلورنسا الشمال" وتسلط الضوء عليها من منظور مختلف تمامًا.    

بلورة سحرية نابضة بالألوان

لحظات ساحرة من مهرجان شاوبودِن زومِّر بدريسدن لحظات ساحرة من مهرجان شاوبودِن زومِّر بدريسدن | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز/ تسيت بي/ بريتّا پِدِرسِن في يوليو من كل عام وعلى مدى عشرة أيام يتحول الفناء الخلفي لمركز شوينه الثقافي وسط حي نويشتات العصري إلى قطعة من بلاد العجائب. للسوق السنوي Schaubudensommer طابع ساحر لا يخلو من بعض اللمسات السريالية. تستشعر في أجواءه النابضة بالألوان لمسة سحرية خاصة، وتجده مليئًا بالعجائب والمفاجآت المدهشة وأكشاك الحلوى القطنية المنفوشة والفنانين المتجولين والراقصين والموسيقيين والمهرجين الذين يتنقلون فيه بين الأكشاك الصغيرة المنتشرة في أنحاء المعرض ويقدمون للمحنكين من صائدي اللآلئ الثقافية عروض جميلة بأسعار زهيدة؛ منها ما هو هزليّ ومنها ما هو جاد ذو طابع درامي أو مخيف.

يتردد الفنانون الترفيهيون من جميع أنحاء العالم على هذا الحدث السنوي ليذهلوا رواده على مدى إحدى عشرة أمسية بعروضهم الجذابة وفقراتهم المميزة والمتنوعة باستمرار.
أما سكان دريسدن، الذين يؤكدون فكرة التزمت المعروفة عنهم، فيلتقون هنا بمنافس لا يقبل الهزيمة.
وتنتظر رواد معرض شاوبودِن في نهاية كل أمسية مفاجأة عند منتصف الليل؛ إما حفلة موسيقية في شرفة خاصة أو عرض لمسرح العرائس بالحديقة وغيرها من المفاجآت الكثيرة.
في معرض شابودِن زومِّر الساحر يمتزج البريق بالسحر وألعاب السيرك بماكياج المسرح والذهول بالإدراك – حلم ليلة صيف من نوع خاص، لا يمكن للمرء أن يفوته بأي حال من الأحوال.

إطلالة أسطورية للجميع

خلال ما يُسمى بـ "أمسية القصور"، وهي واحدة من أبرز الفعاليات الليلية، يقدم الفنانون والفنانات عروضهم الأدائية في حدائق قصر ألبرختسبرج وإكِّبرج ولينجنِّر شلوس. خلال ما يُسمى بـ "أمسية القصور"، وهي واحدة من أبرز الفعاليات الليلية، يقدم الفنانون والفنانات عروضهم الأدائية في حدائق قصر ألبرختسبرج وإكِّبرج ولينجنِّر شلوس. | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز/ وكالة الأنباء الألمانية/ وكالة الأنباء الألمانية/ وكالة تصوير تسنترالبيلد – وكالة الأنباء الألمانية /سِباستيان كانرت يتمتع قصر لينجنر Lingnerschloss بواحدة من أجمل الإطلالات على مدينة دريسدن ووادي نهر إلبه. يعود مبناه للعصر الكلاسيكي المتأخر ويمثل جنبًا إلى جنب مع قصري إكِّبرج Eckberg وألبرختسبرج  Albrechtsbergالثلاثي المعروف عادة باسم "قصور نهر إلبه". صمدت جميعها عبر الحرب العالمية الثانية دون أن تتعرض للقصف، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة معجزة، لاسيما وأن جزءًا كبيرًا من آثار الباروك في دريسدن قد سقط ضحية للقصف. اختلف مصير قصر لينجنِر شلوس عن نظيريه، إكِّبرج وألبرختسبرج، فكلاهما "مغلق" أمام الجمهور إلى حد كبير. إذ تحول قصر إكِّبرج إلى فندق في المقام الأول وأصبح قصر ألبرختسبرج ساحة محببة لإقامة الأعراس والفعاليات، من بينها معرض الكتاب السنوي بدريسدن "دريسدن إرلِزن" Dresden (Er)Lesen.
بُني قصر لينجنِر في الأصل للأمير ألبرخت فون برويسن ولكنه سُمي على اسم كارل أوجوست لينجنِر الذي اشتراه في عام ١٩٠٦، وهو رجل أعمال وراعي فنون ومصنع ومسوِّق متحمس لغسول الفم أودول. سكن في القصر على مدى عشر سنوات قبل أن يتوفى جراء إصابته بسرطان الفم من بين جميع الأمراض. أوصى بأن يؤول القصر لمدينة دريسدن بعد وفاته واشترط صراحة بأن يتم السماح لكافة المواطنين بدخوله وألا يبقى حكرًا على الطبقة العليا الثرية، وأن يُقام بداخله مطعم يتميز بأسعاره الزهيدة.
عندما يكون الطقس معتدلًا يستمتع رواد حديقة البيرة والمطعم، إلى يومنا هذا، بإطلالة تمتد لأميال فوق مزارع الكروم وصولًا إلى التشيك، بينما يحتسون مشروبات كحولية متنوعة بأسعار زهيدة تصل إلى ٧٥ سنت فقط.
كما يحرص صندوق دعم قصر لينجنر ج.م. منذ عام ٢٠٠٢ على ترميم المبنى وإتاحته للأغراض الثقافية. ففي هذه الأثناء، فتحت بعض قاعاته أبوابها مرة أخرى أمام المعارض الفنية والعروض السينمائية وحفلات الزفاف والفعاليات الثقافية. ولا شك أن لينجنر ينظر إلينا الآن من فوق سحابته المنعشة وعلى وجهه ابتسامة راضية. 

دريسدن و"البيوت الجاهزة"

جهود مدينة دريسدن في بسيل النهوض بمبانيها سابقة التجهيز أو ما يُسمى بـ "البيوت الجاهزة". جهود مدينة دريسدن في بسيل النهوض بمبانيها سابقة التجهيز أو ما يُسمى بـ "البيوت الجاهزة". | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز/ وكالة تصوير تسنترالبيلد – وكالة الأنباء الألمانية/ مونيكا سكوليموڤسكا قد يظن البعض أن الباروك هو الطراز الغالب على مدينة دريسدن، ولا يعرف الكثيرون أن نمط "البيوت الجاهزة" أو الوحدات السكنية سابقة التجهيز قد لاقت رواجًا كبيرًا في هذه المدينة إبان الستينيات وأن هذه المساكن الاجتماعية المتراصة بجوار بعضها البعض كانت في يوم من الأيام رمزًا من رموز الحداثة في ألمانيا الشرقية. ورغم كونها "عملية ومربعة الشكل"، كما يقُال على شوكولاتة ريتِّر، إلا أنها افتقرت في جميع الأحوال إلى جاذبية التصميم. وعقب سقوط جدار برلين انخفض الطلب على هذا النوع من المباني على نحو جذري، وتحولت هذه المجمعات السكنية على نحو متزايد إلى مناطق للصراعات والاضطرابات الاجتماعية أو ما يُسمى بـ "البؤر الاجتماعية الملتهبة"، وهي التي كان يُنظَر إليها يومًا ما على أنها مبانٍ أنيقة. وارتبط مصطلح "Platte" (اختصار لـ Plattenbau بمعنى المباني سابقة التجهيز) منذ ذلك الحين في أذهان الكثيرين بالانحدار الاجتماعي وأصبح رمزًا للبيئة الاجتماعية القبيحة.

ولكن، ليس بالضرورة أن يبقى الوضع على هذا الحال. وهذا ما أثبته لنا مجمع Kräutersiedlung السكني (بمعنى مجمع الأعشاب السكني) الكائن في مقاطعة جوربيتس. كان في الماضي عبارة عن قرية بها مزارع وحقول وبيوت مشيدة بأسلوب التأطير الخشبي، ولكنها ورثت عقب التوحيد تركة ثقيلة، بالمعنى الحرفي للكلمة، من الخرسانة، إذ اختارها المكتب السياسي لحزب الوحدة الاشتراكية الألماني كموقع لبناء مجمع سكني يضم آلاف الوحدات السكنية سابقة التجهيز. إلى أن جاءت شركة Eisenbahner Wohnungsgenossenschaft للإسكان (EWG) وسعت على مدى أعوام طويلة إلى النهوض بأكبر مجمع سكني في المدينة. وحانت اللحظة الحاسمة في عام ٢٠٠٢ حين بدأت الشركة في تفكيك طابق أو طابقين من المباني المكونة من ستة طوابق وتوسيع المطابخ والحمامات وإضافة نوافذ لها وبناء شرفات جديدة فضلًا عن تحديث كل شيء وطلاء المباني وإضافة الكثير من المساحات الخضراء للمجمع السكني. واليوم، صارت الحياة هناك، ما بين شارعي Kamillenweg و Thymianweg (بمعنى طريق البابونج وطريق الزعتر)، جميلة وعصرية، حتى أنه تم البدء في تنفيذ مشروع تطوير عمراني آخر في جوربيتس.                  
roject has already been launched in Gorbitz.

 ماعلاقة الأوبرا بعشبة الدينار؟

لقطة لأوبرا زِمپِر من الداخل. لقطة لأوبرا زِمپِر من الداخل. | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز/وكالة الأنباء الألمانية/ وكالة تصوير تسنترالبيلد – وكالة الأنباء الألمانية/ روبرت ميشائِل أوبرا زِمپر Semperoper؛ إنها الأوبرا التي شيد مبناها الفاخر جوتفريد زِمپِر، والتي اتخذت منها شركة رادِبرجر للبيرة واجهة إعلانية لها حتى أن روادها من السائحين لا يزالون يندهشون حتى يومنا هذا من أن برنامجها الترفيهي ثقافيّ الطابع ولا صلة له بالبيرة. إن أوبرا زِمپر ليست مصنعًا للبيرة بالطبع، بل واحدة من أشهر الساحات الموسيقية في العالم؛ تتردد عليها الجماهير على مدار العام وليس فقط لحضور حفلها الراقص الذي يُقام فيها بصفة سنوية. وإن مبنى الأوبرا الكائن في ميدان Theaterplatz (بمعنى ميدان المسرح) لهو المبنى الثالث لأوبرا زِمپِر؛ فالمبنى الأول قد سقط ضحية لحريق في عام ١٨٦٩ والثاني لغارة جوية في عام ١٩٤٥. وبعدها بـ ٤٠ عامًا، افتُتِح المبنى الحالي لأوبرا زِمپر، ويُقام فيها منذ ذلك الحين ما يقرب من ٢٥٠ فعالية موسيقية سنويًا. وإن لم تكن من عشاق الموسيقى، فيمكنك المشاركة في جولة من الجولات الإرشادية المقدمة داخل المكان ومشاهدة مبنى الأوبرا الأسطوري. وستكتشف عندئذ أن هناك علاقة بالفعل بين البيرة ودار الأوبرا؛ حيث أن الألواح الخشبية في البهو تدين بمظهرها الطبيعي لمعالجتها بمشروب البيرة البارد المصنَّع بعشبة الدينار. 

مملكة القط

أيقونة من أيقونات دريسدن: إنها مكتبة بوشرس بست التي يديرها في الخفاء قط يُدعى مياموتو موساشي. لقطة للقط مع يورج شتوبينج الشهير بـ "شتو". أيقونة من أيقونات دريسدن: إنها مكتبة بوشرس بست التي يديرها في الخفاء قط يُدعى مياموتو موساشي. لقطة للقط مع يورج شتوبينج الشهير بـ "شتو". | صورة (مقطع): © كادِّي كوتس أيقونة من أيقونات دريسدن: إنها مكتبة بوشرس بست التي يديرها في الخفاء قط يُدعى مياموتو موساشي. يراقب مياموتو أجواء المتجر الصاخبة ويساعد عشاق القراءة الحائرين على اختيار الكتب، إن شعر برغبة في ذلك. إن متجر يورج شتوبينج الشهير اختصارًا بـ "شتو" والذي درس في الأصل الفلسفة ودخل مجال تجارة الكتب بالصدفة، لهو كنز بمعنى الكلمة. تستضيف المكتبة حلقات نقاش غير رسمية وقراءات ارتجالية يلتقي فيها أناس من مختلف مناحي الحياة. لن تلتقي هنا بسكان دريسدن الذين يؤثرون الصمت، حتى وإن كانت مختاراته المتنوعة والمدروسة بعناية قد تترك المرء عاجزًا عن الكلام أحيانًا. فالكتب المعروضة هنا لم يتم اختيارها اعتباطًا، والتوصيات التي تُقَدم لرواد المكتبة نادرًا ما تخطئ. إضافة إلى ذلك، خصصت المكتبة رفًا كاملًا لدور النشر الصغيرة والكاتبات والكتاب المحليين الذين يترددون على المكتبة قبيل مشاركتهم في القراءات الأدبية أو المبارزات الشعرية لجذب أطراف الحديث مع رواد المكتبة أو مداعبة القط مياموتو. وبعد انتهاء ساعات العمل بالمكتبة يحرص شتو على فتح أبواب متجره بشارع لويزنشتراسيه أمام المعارض الفنية والحفلات الموسيقية والقراءات الأدبية التي تُقام في الصيف بالحديقة في الهواء الطلق.                 

غذاء الروح لعشاق السينما

دار العرض الكائنة بحي بلازِڤيتس لهي عنوان الأفلام الأوروبية الفردية والأفلام الوثائقية وغيرها من درر الشاشة الفضية غير التقليدية. دار العرض الكائنة بحي بلازِڤيتس لهي عنوان الأفلام الأوروبية الفردية والأفلام الوثائقية وغيرها من درر الشاشة الفضية غير التقليدية. | صورة (مقطع): © پي كا أوست إن كنتم تبحثون عن كنوز سينمائية استثنائية، فأوصيكم بالذهاب إلى سينما Programmkino Ost للأفلام البديلة والمستقلة وغير التجارية؛ فدار العرض الكائنة بحي بلازِڤيتس هي عنوان الأفلام الأوروبية الفردية والأفلام الوثائقية وغيرها من درر الشاشة الفضية غير التقليدية. يدير كل من يانا إنجِلمانّ وسڤِن ڤِزِر هذا المكان الذي ترى فيه الجص المرمم جنبًا إلى جنب مع أحدث تقنيات العرض السينمائي ويحرصان منذ عشرين عامًا على عرض الأفلام التي يريان أنها جديرة بالمشاهدة. وبالفعل، ذاعت شهرته وصار وجهة لهواة السينما من جميع أنحاء المنطقة، حيث يصل عدد زواره حاليًا إلى ١٨٠٠٠٠ زائر سنويًا.     

الشجرة العتيقة

"شجرة الزيزفون الضخمة بباحة الكنيسة في كاديتس": طباعة حجرية لكارل ڤيلهلم أرلدت (تعود لعام ١٨٤٠ تقريبًا). "شجرة الزيزفون الضخمة بباحة الكنيسة في كاديتس": طباعة حجرية لكارل ڤيلهلم أرلدت (تعود لعام ١٨٤٠ تقريبًا). | صورة (مقطع): © Wikipedia.org / متاحة للعموم إن أردت أن تستكشف قرى دريسدن التاريخية، فإليك هذه القاعدة الذهبية: سيتجسد لك التاريخ أينما سبقت كلمة "Alt-" (أي "قديم") اسم المكان: مثل بلدة ألت تراخاو التاريخية Alt-Trachau أو شارع ألتپيشن Altpieschen أو حتى شارع ألت كوتسشِنبرودا Altkötzschenbroda، الذي لا يتبع دريسدن رسميًا، إلا أننا سنغض الطرف عن ذلك لما له من طابع ريفي رائع.

يشعر المرء في هذه الأماكن، بما فيها من أفنية داخلية وبيوت ريفية وحِرَفية، وكأنه في رحلة عبر الزمان. وفي حي كاديتس التاريخي، وتحديدًا بباحة كنيسة عمواس، سيتسنى لك رؤية شجرة الزيزفون العملاقة، أو "ذات الألف عام"، أمام بيت قساوسة طائفة لورنتيوس الإنجيلية اللوثرية الذي تم بناؤه قبل ٣٠٠ عام. ويقدِّر الخبراء عمر الشجرة بـ ٨٥٠ عامًا على الأقل، وتعد بذلك أقدم شجرة في دريسدن. يصل ارتفاعها إلى ٢٠ مترًا ويبلغ محيط جذعها الذي اتخذ هيئة غير تقليدية نحو ١٠ أمتار. وقد تضررت شجرة الزيزفون بشدة جراء حريق اندلع في القرية عام ١٨١٨ وانقسم جذعها لنصفين، ولكنه التئم مرة أخرى واتخذ شكلًا فريدًا من نوعه. وعلى الرغم من أن الشجرة مجوفة من الداخل ومثبتة بدعامات، إلا أنه قد تشكلت بداخلها طبقة جديدة من اللحاء على مر العقود. وأُدرِجَت شجرة الزيزفون بكاديتس ضمن معالم المدينة الطبيعية منذ عام ١٩٨٥. 

مركز لتوليد الطاقة الثقافية

صارت محطة ميتِّه السابقة للتوليد المشترك موطنًا جديدًا لمسرح الجيل الجديد ومسرح مدينة دريسدن للأوپريت صارت محطة ميتِّه السابقة للتوليد المشترك موطنًا جديدًا لمسرح الجيل الجديد ومسرح مدينة دريسدن للأوپريت | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز/ شركة بيلد أجنتور أونلاين ش.ذ.م.م./ إكس ترتبط دريسدن في أذهان الكثيرين بالرجعية والتشبث بالماضي وعدم الانفتاح على الجديد. ولكن، تأتي محطة التوليد المشتركة، ميتِّه، لتكذب كل هذه الصفات التي يعزونها إلى مدينة دريسدن. هذا المعلم الصناعي العملاق الكائن في ضاحية Wilsdruffer Vorstadt والذي يمتد على مساحة ٤٠٠٠٠ متر مربع ويعود تاريخه للقرن الـ ١٩، قد تحول إلى مركز فني وثقافي وإبداعي نابض بالحيوية وفريد من نوعه. كان في السابق محطة مشتركة لتوليد الحرارة والطاقة ثم أوقف تشغيله في عام ١٩٤٤ وتحول منذ عام ٢٠١٦ إلى ساحة ثقافية وموطن جديد لمسرح مدينة دريسدن للأوپريت ومسرح الجيل الجديد tig. وفي الجوار، يحلو السهر في ساحة فعاليات محطة ميتِّه للطاقة Kraftwerk Mitte، ويمكن للمرء أيضًا أن يشاهد فيلمًا جميلًا في السينما المركزية أو يشارك في إحدى الدورات التدريبية المقدمة من متحف الطاقة أو من المعهد العالي للموسيقى. تعد هذه الساحة جوهرة معمارية بكل معنى الكلمة، إذ تمتزج فيها المباني الحديثة بمبانٍ من العصر الصناعي، منها ما هو مسجل بالفعل كأثر تاريخي. وعن تحوله إلى ساحة ثقافية فاز المركز في عام ٢٠١٧ على جائزة ولاية ساكسونيا لثقافة البناء. 

لا تنسوا المظلة

فناء العناصر بممر كونستهوف بدريسدن فناء العناصر بممر كونستهوف بدريسدن | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز/ شركة بيلد أجنتور أونلاين ش.ذ.م.م./ ساني سيليست إن هطول الأمطار على مدينة دريسدن ليس سببًا بالمرة للشعور بالكسل والاكتئاب. بل إن الأمطار تعود بالنفع، لاسيما على ممر كونستهوف الذي يمتد عبر عدة أفنية خلفية بحي نويشتات تتميز بتصميماتها المتطورة. فعندما تهطل الأمطار فوق "فناء العناصر" وتتدفق قطراتها عبر أنابيب الصرف أمام واجهات المباني الزرقاء، فإنها تعزف مقطوعة موسيقية فريدة من نوعها.
ويعد هذا المشروع ثمرة مجهود مشترك بين النحاتة أنيت پاول والمصمم كريستوف روسنِر والفنان أندريه تِمپِل. حين تتساقط الأمطار على هذا الحي العصري، تتدفق مياهها عبر متاهة معقدة من الأنابيب والأقماع والأبواق والشلالات والمنصات وتعزف في طريقها لأسفل لحنًا مختلفًا في كل مرة قبل أن ينتهي بها المطاف في صهريج. لا تنسوا مظلاتكم ليتسنى لكم الاستماع بهذه المعزوفة الموسيقية دون عناء.
وإن كنتم تفضلون الجلوس في مكان جاف، ستجدون في الجوار أفنية أخرى؛ فناء الضوء وفناء التحول وفناء الحيوانات وفناء مخلوقات الأساطير، تتميز بتفاصيلها الغامضة والمرحة ومتاجرها الفريدة من نوعها. 

قلب المدينة – معالم ترضي جميع الأذواق

يمكنك التنقل في أنحاء وسط مدينة دريسدن سيرًا على الأقدام. يمكنك التنقل في أنحاء وسط مدينة دريسدن سيرًا على الأقدام. | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز/ ماتياس هيكل/ وكالة الأنباء الألمانية رغم أن الإشادة بوسط المدينة باعتباره معلمًا من معالم دريسدن السياحية قد لا يبدو خلاقًا بالضرورة، إلا أنه لا يمكنك بأي حال من الأحوال أن تفوت مشاهدة هذا الكم الضخم من المعالم التي تتمركز في حي وسط المدينة. تقع جميع المعالم على مسافة قريبة من بعضها البعض، لذا يمكن الوصول إليها سيرًا على الأقدام ومشاهدتها خلال بضع ساعات. يقع الحي التاريخي على ضفاف نهر إلبه ويضم مجمع تسڤينجر Zwinger ذو الطراز الباروكي، بما فيه من متاحف، من بينها جاليري زِمپِر ومجموعة مايسن للبورسلين وأوبرا زِمپِر أو مسرح وأوبرا البلاط الملكي سابقًا الذي يعود للقرن الـ ١٩، وكذلك قصر دريسدن الذي كان في السابق مقرًا للأمراء الناخبين والملوك، فضلًا عن ممشى الحي التاريخي المطل على نهر إلبه والمعروف باسم Brühlsche Terrasse أو "شرفة برول" وأخيرًا وليس آخرًا كنيسة Frauenkirche (كنيسة السيدة العذراء) الباروكية الشهيرة الكائنة في ميدان نويماركت.
أما عشاق الفن، فسيجدون هنا كل ما يطرب قلوبهم في مكان واحد: معرض لوحات Alte Meister الذي يضم لوحة مادونا دي سان سيستو وغيرها من التحف والمقتنيات الفنية التابعة للدولة وكذلك متحف القبو الأخضر الذي يضم كنوز أمراء ساكسونيا الناخبين وملوكها والذي فقد جزءًا من كنوزه عقب عملية السطو التي تعرض لها في عام ٢٠١٩ والتي لم يتم كشفها ملابساتها بعد.
ويصل المرء عبر جسر أغسطس إلى حي نويشتات مارًا بتمثال الفارس الذهبي. وقد تم تغيير اسم هذا الجسر مؤقتًا في عام ١٩٤٥، وسُميَ على اسم الشيوعي البلغاري جيورجي ديميتروف. ولكن، ثمة ألسنة خبيثة تدعي وجود أسباب مختلفة وراء هذه التسمية. إذ يقولون أن اسم أغسطس القوي كان يتمتع بشهية جنسية نشطة وأن اسم "ديميتروف" يستند إلى عبارة كان يقولها لسائق عربته كلما رأى امرأة جميلة أثناء عبوره من فوق الجسر: die-mit-druff (أي دعها تركب معنا، وتُنطَق: دي ميت دروف)، وأنه ساهم بالتالي بنفسه في تغيير اسم الجسر قبلها بعقود. ولكنّ الجسر استعاد اسمه مرة أخرى منذ عام ١٩٩٠، وحظت دريسدن منذ عدة أعوام بلقب عاصمة المواليد الألمانية.

ملامح المدن

الحدائق المحصَّصة في برلين أم السباحة العارية في ميونخ؟ نستكشف لكم المدن الألمانية من منظور جديد. لن نكتفي برسم ملامح المدن الكلاسيكية، من أماكن ومجتمعات ومناسبات، بل سنضيف إليها ملامح جديدة من خلال هدم بعض الصور النمطية التي ارتبطت بها في أذهان الكثيرين.