القليل من الناس قد يختار العيش في مدينة فرانكفورت بإرادته، وهذا لارتباطها في أذهان الكثيرين بنواحٍ سلبية ذات صلة بحي البنوك والمطار وحي "الضوء الأحمر" والمخدرات. لكن معظم من يختارون العيش فيها رغم كل هذا، يرتبطون بالمكان ويجدون صعوبة في الرحيل عنه. في هذا المقال تسلط كاتبتنا إيفا-ماريا فِرفورث الضوء على الجوانب الأخرى التي تجعل عاصمة ألمانيا المالية مكانًا محبوبًا وملائمًا للعيش، رغم كل ما يرتبط بها من صور نمطية.
صراع ناطحات السحاب والمباني القديمة
أكثر ما يميز فرانكفورت هو خط الأفق الذي ترسمه أسطح وقمم المباني في سمائها.
| صورة (مقطع): © أدوبي
إن أكثر ما يميز فرانكفورت بين المدن الألمانية الأخرى هو خط الأفق الذي ترسمه أسطح وقمم المباني في سمائها. قد يكون مشهدًا عاديًا في أمريكا، ولكنه فريد من نوعه في ألمانيا. يوجد في ألمانيا ١٨ ناطحة سحاب، ١٧ منها في فرانكفورت. إضافة إلى أنه يوجد في فرانكفورت أكثر من ٣٠ مبنى يزيد ارتفاعه عن ١٠٠ متر: أبراج من صلب وزجاج تضم مقرات لبنوك وشركات تأمين واستشارات في المقام الأول، وهو سبب تسمية هذا الحي، تحديدًا الشوارع الواقعة بين الأوبرا ومحطة القطار، بـ "حي البنوك". عرفت فرانكفورت هذا النوع من المباني في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما حلت محل برلين كمركز مالي لألمانيا وأصبحت واحدة من أهم المراكز المالية في أوروبا، وتضم الآن ما يصل إلى ٣٠٠ بنك محلي ودولي.
ولكن سكان فرانكفورت تصدوا لبناء المزيد من المباني الخرسانية الشاهقة في مقابل هدم المباني القديمة. ففي السبعينيات، شارك المواطنون في مظاهرات حاشدة احتجاجًا على تهجير المستأجرين في مقاطعة ڤِست إند Westend بفرانكفورت واستوطنوا داخل المباني للحول دون هدمها. تفاقمت الأحداث واندلعت اشتباكات عنيفة بين المواطنين والشرطة وخلد التاريخ حركة المقاومة الشعبية باسم "حرب مباني فرانكفورت". نجحت الحركة في إنقاذ العديد من المباني التاريخية آنذاك، ورغم مواصلة بناء المباني الشاهقة في الثمانينيات والتسعينيات، إلا أنه اقتصر على بضعة مربعات سكنية فقط. ولكنه لم يتسنَ للمتظاهرين القضاء على الأسباب الجوهرية التي أدت إلى اندلاع هذه المظاهرات من البداية والتي لا تزال حتى يومنا هذا من أكثر قضايا المدينة إلحاحًا؛ ومن بينها المضاربة العقارية وما يُعرف بظاهرة الاستطباق وتهجير المستأجرين.
السهر في حي الضوء الأحمر
مطاعم وملاهٍ ليلية في الطابق الأرضي ومن فوقها فوانيس حمراء: يجذب حي بانهوف فيرتل الناس إليه لأسباب مختلفة.
| صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز / وكالة الأنباء الألمانية / بوريس روسلِر
إنه أحد الأحياء التي ساهمت بشكل كبير في تردي سمعة المدينة: حي Bahnhofsviertel (بمعنى حي محطة القطار). هنا، تحت ظلال أبراج البنوك البراقة وبين منشآت "الضوء الأحمر" والحانات المتداعية ومستوصف الميثادون تتجلى الجوانب المظلمة للحياة في المدن الكبرى. لو ما ضل المرء طريقه في محطة القطار وسلك المخرج الخاطئ سيجد نفسه يشق طريقه بين مدمني ومروجي المخدرات. أُنشئ هذا الحي الراقي في مطلع القرن الماضي على غرار أحياء باريس، إلا أنه تدهور مع مرور الوقت وتحول إلى بؤرة ملتهبة.
تحوَّل حي بانهوف فيرتل على المدى الأعوام القليلة الماضية إلى الحي الأكثر شهرة ورواجًا في المدينة. ففي هذا الحي يتجلى الطابع العالمي لمدينة فرانكفورت في أبهى صوره؛ تجد فيه بقالات السوبرماركت الهندية جنبًا إلى جنب مع المطاعم الفارسية للمأكولات السريعة والأكشاك الباكستانية والمطاعم الإثيوبية وبارات النواصي الألمانية والحانات ذات الطابع البوهيمي وملاهي موسيقى الإلكترو. في مطعم موزِل إك Moseleck يتجلى لك الطابع القديم لهذا الحي؛ ترى رواده يتحدثون مع بعضهم البعض في موضوعات غير تقليدية دون معرفة مسبقة بينما ينتظر كل منهم وصول طعامه عند الكونتر. وترى جانبه الحديث العصري في كشك يوك يوك Yok Yok الذي يتواعد الأصدقاء أمامه مساءً للسهر والاستمتاع بزجاجة من البيرة. كما يمكن للزوار الاستمتاع بالرقص على أنغام موسيقى الهاوس الإلكترونية إما في بار پلانك أو في بار پراخت وكذلك مشاهدة العروض الترفيهية بين الأثاث المخملي الأحمر الفاخر في ملهى التعري السابق Pik Dame أو العودة بالزمن لعمر العشرينات والاستمتاع بموسيقى السوينج في أورانج پيل Orange Peel.
الاستجمام في وسط المدينة
تتميز أحياء وسط المدينة بمساحاتها الخضراء الشاسعة – ولا يذكرنا فيها بطابع المدينة المالي سوى قمم الأبراج في الأفق.
| صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز / چـ. ڤـ. ألكر
تعتبر فرانكفورت مدينة صغيرة للغاية مقارنة بعدد سكانها البالغ ٧٥٠٠٠٠ نسمة ومكانتها العظيمة كمركز مالي دولي. إلا أن هذا جعلها تجمع ما بين مزايا المدن الكبرى والصغرى، من قصر المسافات وهدوء الأجواء النسبي مقارنة بالمدن المتروبولية الأخرى. فيما عدا حي البنوك الذي يشغل مساحة صغيرة نسبيًا، تتميز فرانكفورت بعمارتها ذات الطراز الفلهلميني الأنيق ومساحاتها الخضراء الشاسعة.
تضم منطقة وسط المدينة عددًا من الأحياء السكنية؛ حي بورنهايم Bornheim ونورد إند Nordend وزاكسِنهاوزِن Bockenheim، تتميز بمقايها ومطاعمها المريحة وشوارعها الهادئة ومتاجرها الراقية ومكتباتها العتيقة وبوجود عدد من دور العرض الاستثنائية المتخصصة في عرض الأفلام البديلة غير التجارية. ولكل حي من هذه الأحياء شارع تسوق خاص به، أطولها هو شارع برجِر Berger الذي يمتد لما يقرب من ثلاثة كيلومترات من وسط المدينة إلى القرية القديمة. تتميز هذه القرية ببيوتها المشيدة بأسلوب التأطير الخشبي وكنيستها ذات القبة البصلية، وكذلك متاجر مشروعات التجزئة الصغيرة التي لم تنقرض منها بعد، كمتجر الحرف الفنية ومحل الخردوات الصغير الكائن عند الميدان.
كما تضم المنطقة الكثير من المساحات الخضراء؛ منها متنزه بِتمانّ Bethmannpark الساحر، الذي يشتهر بحديقته الصينية، ومتنزه جونتر بورج Günthersburgpark الذي يتميز بمساحاته العشبية التي يستجم فوقها الزوار بينما يستمتعون بحمامات الشمس وبحفلاته الموسيقية المقامة في الهواء الطلق، إلى جانب حديقة قصر هولتس هاوزِن Holzhausen وحديقة جرونِبورج Grüneburgpark بمساحتها الشاسعة وطرقها المتعرجة وحديقة أوست بارك Ostpark الساحرة ذات الطابع البري. قلما ترى هنا موظفين ببدل رسمية وحقائب أو قمم الأبراج الزجاجية التي لا تتجلى هنا إلا من حين لآخر في نهاية أحد الشوارع الأثرية الملونة أو من فوق قمم الأشجار وتذكرك عندئذ بعالم البنوك الذي يبدو من هنا وكأنه بعيد جدًا.
رخصة لمصاعد الأفراد
لحرم جامعة يوهان ڤولفجانج فون جوته الأثري تاريخ طويل وحافل : كان في الأصل مقرًا لمجموعة شركات الكبرى ثم تحول إلى قاعدة عسكرية.
| صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز / إيماچ بروكر / شتِفان إسپِنهان
تتألف مصاعد پاترنوستر من سلسلة من العربات المفتوحة التي تتحرك في الاتجاهين ليتسنى للركاب الصعود والنزول في أي طابق من الطوابق. إنها مصاعد تراثية تعود لمطلع القرن الماضي ولا يوجد منها سوى ٢٥٠ مصعدًا في جميع أنحاء ألمانيا، منها عدد قليل لا يزال متاحًا للاستخدام من قبل الجمهور كذلك الكائن في فرانكفورت. ولأسباب تتعلق بالسلامة والأمان حلَّت محلها في السبعينيات من القرن الماضي المصاعد المغلقة وصار وجود المصاعد ذات العربات الخشبية المتحركة أمرًا نادرًا، رغم أن ركوبها المصاعد، أو بالأحرى القفز داخلها وخارجها، أكثر متعة بكثير من ركوب المصاعد المغلقة. وهذا ما يمكنك أن تختبره بنفسك في مصعد جامعة جوته الذي يتألف من ثماني عربات، حيث صار استخدامه متاحًا للجمهور بعد أن كان مقتصرًا في الماضي على موظفي الجامعة الذين اجتازوا دورة تدريبية في "فن ركوب مصاعد پاترنوستر"، بل وكانوا يخضعون لإشراف أفراد أمن معينين خصيصًا لهذا الغرض.
أما مبنى الجامعة الرئيسي، فهو مكان يستحق الزيارة، ليس فقط للاستمتاع بركوب مصاعد پاترنوستر، بل، وعلى الأخص، لئلا يفوِّت المرء مشاهدة هذا المعمار المهيب الذي بُني في عام ١٩٣٠ تقريبًا كمقر لشركة الكيماويات والأدوية الكبرى آي چي فاربِن I.G. Farben. يذكرنا المبنى البالغ ارتفاعه ٢٥٠ مترًا بالماضي النازي المظلم، حيث ساهمت شركة آي چي في تصنيع غاز "تسيكلون بي" أو السيانيد السام الذي استُخدِم في غرف الغاز وخضعت بعض معسكرات الإبادة لإدارتها الخاصة. وبعد انتهاء الحرب استغل الأمريكان المبنى كقاعدة عسكرية. واليوم، نجح مبنى الجامعة في مواجهة هذا الماضي المظلم بأجوائه الإيجابية: أشجار ضخمة من الصفصاف والزيزفون تزين الحدائق الأثرية المحيطة بالمبنى، وتمتد الأسوار الحجرية القصيرة عبر المروج وترى تمثال الحورية جالسًا على حافة الحوض المائي بينما يستمتع زوار مقهى الجامعة بالمشروبات المرطبة في قاعة زجاجية مستديرة ويتنزه الطلبة والمحاضرون في أنحاء المكان ويستمتع الأطفال والمراهقون بالتزلج بألواح وأحذية التزلج فوق المسارات الواسعة.
المدينة التاريخية "الحديثة"
لقطة لحي فرانكفورت التاريخي | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز / يوخِن تاكّ بينما تفتخر المدن الأخرى بقِدَم أحيائها التاريخية، تفتخر فرانكفورت بالعكس تمامًا. إذ يعتبر الحي التاريخي بمدينة فرانكفورت حي جديد تمامًا، أو بالأحرى "أحدث حي تاريخي" في ألمانيا. تعود جذور حي فرانكفورت التاريخي للعصور الوسطى وعصر النهضة، ولكنه تدمر تمامًا جراء القصف الذي تعرض له إبان الحرب العالمية الثانية، كحال العديد من المدن الألمانية. وفي أعقاب الحرب أعيد بناء ميدان رومِر Römer، بما في ذلك قاعة المدينة التاريخية والواجهات الضخمة المشيدة بأسلوب التأطير الخشبي. أما الجزء الباقي من الحي التاريخي القديم، والذي كان يتألف بشكل أساسي من مبانٍ مربعة الشكل تم إنشاؤها على عجل في الخمسينيات، فقد واجه مصيرًا مؤسفًا إلى أن قررت فرانكفورت بعد مناقشات طويلة أن تعيد إحياء قلب المدينة التاريخي من خلال تنفيذ مشروع هندسي تجريبي بدلًا من إعادة بناء مبانيها التاريخية. تم تنفيذ ٣٥ مبنى في إطار المشروع، ١٥ منهم كصورة طبق الأصل من المباني الأصلية، إضافة إلى ٢٠ مبنى حديث استند في طرازه إلى المباني التاريخية وتضمن بالتالي مواصفات صارمة فيما يتعلق بالتصميم، كاستخدام بعض الألوان المحددة وبناء الأسطح بالأردواز على شكل مدبب واستخدام مادة معينة في الواجهات. كما تمت الاستعانة في العديد من المباني بأجزاء أصلية من المباني التاريخية القديمة. ومنذ عام ٢٠١٨ عاد طراز عصر النهضة وعصر الباروك والطراز النيوكلاسيكي يزينون الأزقة الواقعة بين الكاتدرائية وميدان رومِر مرة أخرى جنبًا إلى جنب مع الكثير من المباني الراقية والمقاهي والمتاجر رفيعة المستوى.
دوري أبطال أوروبا على ضفاف نهر الماين
فريق آينتراخت فرانكفورت النسائي (بالأسود) في مباراة بدوري بوندسليجا الألماني ضد فريق توربينه پوتسدام النسائي (بالأحمر). | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز / آيبنر پبرِسِفوتو / أولريش شِرباوم استطاعت فرانكفورت أن تخلِّد اسمها في تاريخ كرة القدم مرارًا وتكرارًا؛ إذ تُوِج هدافو عاصمة الماين لتسع مرات أبطالًا لألمانيا وفازوا تسعة عشر مرة بكأس ألمانيا. إلا أن الفرق النسائية هي من ساهمت بنصيب الأسد في هذه النجاحات. ورغم أن نادي آينتراخت فرانكفورت للرجال المشارك بدوري بوندسليجا الألماني لا يزال يأمل أن يحقق مركزًا في دوري أبطال أوروبا كل بضعة سنوات ورغم أنه تُوِج بالفعل بطلًا لألمانيا في الأيام الخوالي، تحديدًا في عام ١٩٥٩، إلا أنه لا يزال عاجزًا عن مضاهاة نظيره النسائي، على الأقل فيما يتعلق بالترتيب. في الوقت الذي يكتفي فيه الرجال في كل مرة بدوري أبطال أوروبا، الذي وصفه فرانتس بِكِنباور ذات مرة بـ "كأس الخاسرين"، استطاع أنجح فريق نسائي لكرة القدم في ألمانيا؛ فريق نادي فرانكفورت FFC Frankfurt الذي كان لا يزال ناديًا مستقلًا حتى صيف ٢٠٢٠، أن يفوز بدوري أبطال أوروبا للسيدات أربع مرات وبكأس ألمانيا سبع مرات. كما تألق فريق نادي بورنهايم لكرة القدم FSV Bornheim لفترة طويلة كجوهرة صغيرة في عالم الرياضة، حيث احتفظ رجال نادي المقاطعة بمركزهم في دوري بوندسليجا من الدرجة الثانية لسنوات طويلة وجلبوا أبرز فرق كرة القدم، كفريق كولونيا 1. FC Köln ونادي سانت پاولي FC St. Pauli، إلى استاد فرانكفورت الكائن في قلب المدينة أمام ١٢٠٠٠ متفرج، حيث تسنى للجماهير معايشة المباريات عن كثب والتفاعل من نجومهم المفضلين. ومنذ أن هبط النادي في عام ٢٠١٧ إلى الدوري المحلي الألماني (دوري الدرجة الرابعة) تعين على المشجعين حضور مباريات دوري الرجال في استاد البنك التجاري بين ٤٥٠٠٠ مشجع من مشجعي فريق آينتراخت. أما فريق بورنهايم النسائي، فلقد تفوق على فريق الرجال بتتويجه ثلاث مرات بطلًا لألمانيا وفوزه خمس مرات بكأس ألمانيا، إلا أنه تم حل الفريق في عام ٢٠٠٦ لأسباب مالية.
أجواء صاخبة في مهرجان الشارع
يصب نبيذ التفاح الشهير من أباريق الـ بِمبل التقليدية ويُقدَّم في أكواب زجاجية محفورة.
| صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز / وكالة الأنباء الألمانية / آرنِه دِدِرت
منذ العصور الوسطى وحتى يومنا هذا يجتمع الناس مع بعضهم البعض في أسواق فرانكفورت. يلتقي مشجعو فريق آينتراخت في سوق المنتجين الكائن عند ميدان كونستابلِرڤاخِه ويجتمع محبو السهر معًا في سوق النبيذ عند ميدان فريدبِرجر وهواة الجمع في سوق السلع المستعملة المطل على ضفاف نهر الماين، والكل يلتقي بجيرانه في السوق المحلي لتناول فنجان من القهوة وجذب أطراف الحديث. كما أن الأسواق هي المكان الأمثل لتذوق أشهر المأكولات المحلية، كالصلصة الخضراء (صلصة باردة يتم إعدادها بأعشاب موسمية طازجة) أو جبن هاندكاز ميت موزيك Handkäs mit Musik (صنف محلي من الأجبان الصلبة التي يتم إعدادها بالبصل والكراوية)، الذي يفضَّل تناوله جنبًا إلى جنب مع كوب كبير من الـ إبِّلڤوي أو نبيذ التفاح الذي يُصَب من أباريق البِمبِل المنفوخة المصنوعة من الفخار. وتحلو هذه التجمعات ليس فقط في استراحات الغذاء ظهرًا، بل وكذلك مساءً. ففي يوم الجمعة يكتظ سوق فريدبرج بالزوار حين يجتمع فيه محبو السهر وخبراء النبيذ حول أكشاك الطعام والنبيذ قبل البدء في سهرتهم. أما محبي الهدوء والاسترخاء فيهربون إلى ساحة فريدبرجر الصغيرة المجاورة، وهي مجرد جزيرة مرورية يجتمع عندها المارة للاستمتاع ببيرة من الكشك على أنغام موسيقى الريجي.
وفيما عدا الأسواق، تُقام في الصيف العشرات من مهرجانات الشوارع كل عام، من بينها مهرجان شارع بروكِّنڤالّ Brückenwall Straßenfest الذي يضم محلات الأزياء الراقية والعصرية والماركات الشهيرة، ومهرجان شارع بِرجِر Berger Straßenfest الذي يمتد على عدة كيلومترات ويجتمع في حفلاته المفتوحة عشرات الآلاف من سكان فرانكفورت، فضلًا عن مهرجان شارع كوبلنس Koblenzer Straßenfest الذي يتبنى ثقافة بديلة وتُباع فيه الدراجات في مزاد علني على أنغام موسيقى الإلكترو. تُنَظَّم المهرجانات من قبل سكان المدينة أو مجالس الأحياء، حيث يتم نصب أكشاك لبيع الطعام وتقديم كوكتيل الكايبيرينيا وأخرى للاستعلامات، إلى جانب إجراء سحوبات على جوائز وتنظيم سوق للسلع المستعملة وكذلك حفلات في الهواء الطلق تستمر حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.
أهلًا بفرانكفورت، أما أوفِّنباخ، فلا أهلًا ولا سهلًا!
سينما في الهواء الطلق في مركز هافِن ٢ بأوفِنباخ على ضفاف نهر الماين.
| صورة (مقطع): © زوسڤاسِّر ج.م.
كما هو الحال مع المدن المتاخمة لبعضها البعض، نشأت بين فرانكفورت وأوفِّنباخ نزعة تنافسية تعود جذورها للماضي البعيد. ولا تمر احتفالات الكرنفال أو "ثلاثاء المرافع" كما يُطلَق عليها، من دون بعض التهكم على تلك المدينة المجاورة الأصغر حجمًا - لأن أجمل ما في أوفِّنباخ كان ولا يزال إطلالتها الرائعة على فرانكفورت. تعود جذور علاقة الحب والكراهية هذه إلى ما نشب بينهما من نزاع في أواخر العصور الوسطى حول حق المواطنة Burgrecht الذي منح سكان مستوطنة بورجِل المجاورة حق اللجوء إلى مدينة فرانكفورت، ثم تبعه نزاعات إقليمية وطائفية واقتصادية لا حصر لها. ولكن فرانكفورت لا يمكنها الاستغناء عن شقيقتها الصغرى المشاكسة بأي حال من الأحوال.
قد يزدحم طريق الكورنيش المؤدي لـ أوفِّنباخ في فصل الصيف بسبب زيادة أعداد المشاة والدراجات وعربات الأطفال. وإن أفضل ما يمكن للزائر القيام به في أوفِّنباخ، حتى وإن تباينت الآراء بشأنها، هو الاستمتاع بالطقس اللطيف أثناء التنزه على ضفاف الماين الخضراء أو احتساء فنجان من القهوة أو حضور حفل موسيقي في الهواء الطلق أو مشاهدة فيلم سينمائي مع الاستمتاع بإطلالة رائعة على نهر الماين في مركز هافِن ٢ الثقافي Hafen 2 أو في ساحة فعاليات ڤاجون أم كولتورجلايز Waggon am Kulturgleis. وإن كنت من عشاق موسيقى الهاوس الإلكترونية والتكنو، فلا تفوت زيارة ملهى روبرت چونسون، وهو، حتى وإن كان في أوفِّنباخ، إلا أنه يعتبر واحدًا من أشهر الملاهي الليلية في المنطقة.
ثقافة فرعية أسفل برج البنوك
جرافيتي على سور البناء المحيط بالمبنى الجديد للبنك المركزي الأوروبي. | صورة (مقطع): © پيكتشر آليانز / وكالة الأنباء الألمانية / بوريس روسّلِر في بداية الألفية الجديدة انتشرت في فرانكفورت أخبار بشأن بناء برج جديد، أو بالأحرى تحفة معمارية جديدة على ضفاف الماين مباشرة وليس في حي البنوك كما جرت العادة. فبسبب ضيق مساحة المبنى الكائن في ميدان ڤيلهلم براندت ولعدم وجود مساحة كافية لإنشاء مركز جديد في قلب المدينة تقرر بناء المبنى الجديد للبنك المركزي الأوروبي (EZB) في حي أوست إندOstend وتحديدًا على أرض السوق الكبير السابق الذي دُمِجَت قاعاته التاريخية بأسلوب فني في المبنى الجديد. ومع بناء البنك المركزي الأوروبي بدأت في الوقت نفسه عمليات إعادة تطوير الشاملة لحي وسط المدينة الذي كان مهملًا حتى ذلك الحين ولذلك لم يكن من الصعب تحمُّل نفقات تطويره. واليوم، انطلقت في أرجاء المكان مشروعات إنشائية بالمليارات ورفعت معها أسعار الإيجار بطبيعة الحال. ولكنّ المدينة حرصت في الوقت نفسه على ألا يتحول الحي إلى مجمع بنوك آخر، حيث تم توسيع الحدائق المطلة على ضفاف نهر الماين وإنشاء حديقة للتزلُّج وعدة ملاعب لكرة القدم وكرة السلة وملاعب للأطفال، فضلًا عن وضع أجهزة رياضية في الأماكن المفتوحة. واليوم، تجد المتزلجين وركاب الدراجات ومطربي الراپ من سكان فرانكفورت يلتقون أسفل ركائز جسر هونزِل Honsellbrücke الكائن بجوار المبنى الزجاجي المزدوج للبنك المركزي الأوروبي. وتحت أقواس الجسر تنظِّم جمعية لولا مونتِز الفنية Lola Montez فعاليات فنية معاصرة وحفلات على أنغام موسيقى الإلكترو وأسواق ذات طابع ثقافي بديل لمنتجات الكريسماس والماركات الشهيرة. وفي إطار مهرجان المسرح، زومِّرڤِرفت Sommerwerft، الذي يُقام في شهر أغسطس من كل عام عند سفح البرج ذو الواجهة الزجاجية العاكسة، تشهد المدينة واحدة من أكثر الفعاليات المفتوحة سحرًا. إليكم نصيحة صغيرة: يمكنكم أن تستمتعوا في أيام الأحد ربما بأجمل إطلالة بانورامية على مدينة فرانكفورت من المنطقة الواقعة بين البنك المركزي وحديقة التزلج، لاسيما ومن ورائكم ضوء الشمس عند الغروب.
من فن الرسم إلى الثقافة الفرعية
لقطة من مسلسل "سكاي لاينز".
| © نتفليكس
ولا يمكننا التحدُّث عن حي أوست إند من دون الإشارة إلى منطقة الميناء القديم وكذلك إلى الاستوديوهات الفنية، حيث تضم المنطقة مقرين لورش ومعارض فنية يجتمع فيهما فنانين وفنانات من مختلف المجالات والتخصصات. لطالما عُرِفَت فرانكفورت بأنها مدينة الفن، فهي تزخر، من ناحية، بمجموعة لوحات هائلة معروضة في متحف شتادِل Städelmuseum للفن الحديث وكذلك في قاعة شيرن Schirn للفن المعاصر. ومن ناحية أخرى تحرص أكاديمية فرانكفورت للاتصالات والتصميم على إبقاء روح الإبداع الفني حية في المدينة. وبفضل مصمم فن الرقص المعاصر، ويليام فورسايث، الذي انضم في عام ١٩٨٤ إلى فرقة فرانكفورت للباليه، أصبحت عاصمة الماين واحدة من مدن الرقص في ألمانيا.
وفي مدينة فرانكفورت تألقت الثقافة الفرعية جنبًا إلى جنب مع الفنون رفيعة المستوى. إذ ازدهر في الآونة الأخيرة فن الهيپ هوپ الفرانكفورتي على يد فناني الراپ من أمثال آزاد Azad وهافت بِفِل وسيلو & أبدي، وهو ما لم يكن معروفًا للكثيرين من خارج المشهد إلى أن قامت شركة نتفليكس بتجسيده على الشاشة الكبرى في عام ٢٠١٩ من خلال مسلسل سكاي لاينز (خط الأفق) Skylines الذي تدور أحداثه حول صناعة الراپ في فرانكفورت. وبرر السيناريست، دنيس شانس، اختيار فرانكفورت بالتحديد كمكان لأحداث المسلسل قائلًا: "إن فرانكفورت مدينة عالمية على أصغر مساحة ممكنة، تشعر فيها وكأن كل شيء يدور حول الأعمال والتجارة. وفي الوقت نفسه تصطدم هنا العوالم المختلفة مع بعضها البعض أكثر من أي مكان آخر في ألمانيا؛ الغنى مع الفقر، المجتمع المدني مع عالم الإجرام، والحضر مع الريف." لقد أحسن شانس قولًا. وإذا ما قارنا مسلسل باد بانكس Bad Banks، وهو أول مسلسل يُصَور في فرانكفورت ويحقق نجاحًا حقيقيًا في الألفية الحالية، بمسلسل "سكاي لاينز"، سنجد أن القضايا التي طرحها المسلسل الأول لم تكن بنفس القدر من الإثارة ولم تخرج عن نطاق المؤامرات والتنافس في قطاع الاستثمار بالبنوك الكبرى.
ملامح المدن
الحدائق المحصَّصة في برلين أم السباحة العارية في ميونخ؟ نستكشف لكم المدن الألمانية من منظور جديد. لن نكتفي برسم ملامح المدن الكلاسيكية، من أماكن ومجتمعات ومناسبات، بل سنضيف إليها ملامح جديدة من خلال هدم بعض الصور النمطية التي ارتبطت بها في أذهان الكثيرين.
٢٠٢١ فبراير