تونس

٠٧.١١.٢٠٢٣

سياسة الغذاء  2 د حب الباڨات (الخبز الفرنسي)

طوابع "الغذاء من أجل السلام" ©United States "Food for Peace" Program

في فترة معينة - من أواخر الخمسينات إلى الثمانينات - كان الأمريكيون بالفعل هم الذين أعطوا الخبز للأطفال التونسيين لتناول فطور الصباح. تم تقديم سياسة المعونة الغذائية - المعروفة باسم PL-480 و "الغذاء من أجل السلام" - كمساعدات إنسانية. قصة تدمير الثقافة الغذائية التقليدية.

في حي جبل لحمر، على الطريق حيث يبيع توفيق خضري الآن الخبز، يوجد منزل سيدة كانت تعطيه باقات في فطور الصباح في مطعم المدرسة. "فاطمة، رحمها الله، كانت تأتي في الصباح في الساعة التاسعة وتحضر الخبز والزبدة وكل ما يصاحب ذلك كالشوكولاتة وحليب شوكولاتة. كانت رائعة، غير عادية. يتذكر عمّ توفيق، الرجل البالغ من العمر 62 عاما، جالسا في مخبزه، بعد أن أطفأ الأفران. قال إنهم كانوا "شطائر" (پتي پان petit pain)، وهو يصححني بعد استخدام كلمة" باڨات" لوصف الخبز الصغير.

كنت أظنه باڨات حتى شرح لي الفرق. أخذ عمّ توفيق قطعة باڨات من الرف الذي يتواجد خلفه وأوضح قائلا: "أنت تأخذ هذا، وتقطعه وتصنع منه پتي پان (petit pain)، مثل السندويتش. كانوا يضعون عليه الزبدة والجبن. الأمريكيون هم الذين أتوا به إلينا".

في فترة معينة - من أواخر الخمسينات إلى الثمانينات - كان الأمريكيون بالفعل هم الذين أعطوا الخبز للأطفال التونسيين لتناول فطور الصباح. في البداية، نتجت هذه المبادرة عن فائض محلي من القمح: مع تصنيع القطاع، أنتج المزارعون الأمريكيون الكثير منه. حافظت الدولة على الأسعار عن طريق شراء الفوائض والحفاظ عليها. كان من شأن الاحتفاظ بهذه المخزونات أن يؤدي إلى ضغط هبوطي على الأسعار، وكان لدى بعض السياسيين طموحات أكبر للحبوب. لم يكن الخطاب خفيا، مع تصريحات سياسية مثل: "مع الإدارة الجيدة، يمكن أن تصبح هذه الفوائض وسيلة أكثر فعالية من القنبلة الهيدروجينية لمحاربة انتشار الشيوعية".

مخبز الشعب: مخبز لبيع الخبز المدعوم في المنطقة الجنوبية من قبلي مخبز الشعب: مخبز لبيع الخبز المدعوم في المنطقة الجنوبية من قبلي | ©ليلي فردي تم تقديم سياسة المعونة الغذائية - المعروفة باسم PL-480 و "الغذاء من أجل السلام" - كمساعدات إنسانية. ومع ذلك، كما توضح وثيقة حكومية للبرنامج، لم يكن تنفيذه بدون توقع نتائج: "الأطفال الذين سيعجبهم اليوم طعم الخبز والحليب ودقيق الذرة والطعام الأمريكي هم المستهلكون المحتملون غدا".

"لقد كان جزءا من حملة دعائية جاءت من أعلى إلى أسفل"، أوضح لي ماكس عجل عندما قابلته في تونس في بداية العام. ماكس عجل باحث ما بعد الدكتوراه في جامعة فاغينينغن في هولندا. يدور عمله حول القضايا الزراعية. كان الخطاب بسيطا: القمح الطري جيد أما الشعير فهو سيء! قيل للأطفال أن الشعير هو طعام حيواني. في الستينات، الكسكس كان غائبا في كتب التغذية وبداية من منتصف الثمانينات، في نفزة، لم يعد أحد يأكل الذرة الرفيعة.

“في دوز، وهي مدينة في جنوب تونس، تلقى جميع تلاميذ المدارس الخبز، وتنوعت المرافقة حسب الطبقة الاجتماعية. قال لي محمد الفقيه الشاذلي، وهو نجار يبلغ من العمر 64 عاما، في ورشته التي تطل على الشارع:" كانت هناك فئتان". "تم إعطاء تلاميذ الطبقة الوسطى الخبز بالزيت وأحيانا الجبن، وكانوا يجلسون حول طاولات. أما بالنسبة لنا، فقد كان يعطى لنا ربع الخبزة وأحيانا الحليب، ثم يطلب منا المغادرة".
وصفة الكاكي التونسية وصفة الكاكي التونسية | ©Broudou Magazine
من المستبعد أن تكون سياسة PL-480 قد أمرت المدارس التونسية بالتمييز بين التلاميذ، لكن إرسال القمح إلى تونس كان وسيلة لإرضاء الطبقة المتوسطة والكبيرة من ملاك الأراضي، مع الحدّ من القلق الاجتماعي. خلال الفترة التي أعقبت استقلال الجمهورية، اختارت الحكومة التونسية أن التفريط في المزارع الكبرى -التي تجاوز بعضها 10 آلاف هكتار وما زالت مملوكة للفرنسيين-بدلا من إعادة توزيع الأرض، يوضح السيد عجل. في عام 1960، يلاحظ على سبيل المثال، تلقت تونس 72 ألف طن من القمح في إطار سياسة PL-480.

"يجب على الحكومة التونسية اتخاذ خيار جذري. إذا كنت لا ترغب في إعادة توزيع الأرض للتعامل مع السكان الذين يتضورون جوعا"، يقول ماكس عجل. "ماذا بوسعك أن تفعل؟ لا يمكنك فقط ترك الناس يعانون من الجوع لأن الجياع لديهم ميل معين لتعطيل النظام الاجتماعي، كانت الحكومة قلقة للغاية بشأن ثورة محتملة".

تم تصور البرنامج الأمريكي "الغذاء من أجل السلام" كخطة مؤقتة ذات أهداف محددة. لقد جعل من الممكن تجنب الثورة وغيابه اليوم ترك إحساس أكبر بالحرمان.


An illustration of a person eating © Zeineb Ben Haouala “في الخمسينات، هاجر والد توفيق الخضري، في سن ال 18، من مطماطة، في جنوب البلاد، إلى تونس بحثا عن وظيفة. بعد أن وجد رزقه في الخبز، عاد إلى مسقط رأسه للزواج. واصلت زوجته، التي جاءت معه إلى تونس، تصميم الخبز التقليدي في المنزل. في نفس الوقت، فتح عمّ توفيق مخبزه لبيع الباڨات إلى أفواج العمال الذين وصلوا إلى العاصمة وكانوا بحاجة إلى وجبات طعام سريعة.

عندما كان طفلا، أكل عمّ الخضري طابونة والدته التقليدية في المنزل، وكانت مصنوعة من دقيق السميد، الذي فضله على الپتي پان  (petit pain) المصنوع بالفرينة البيضاء. "كان الخبز في المنزل أفضل، كانت والدتي تصنعه بالزيت والسميد وتضع البيض فيه. شيء مختلف، قيمته الغذائية أكبر"، يقول لي.

 ثم يضرب على يده قائلا: " الأمر لم يعد كما كان! باي باي. لقد تغير الزمن. في 15 دقيقة يمكنك صنع 300 قطعة باڨات! هناك فرق كبير".

على بعد خمس دقائق بالسيارة من مخبز عمّ الخضري، لا تزال حليمة، 57 عاما، تصنع الطابونة في المنزل لكي تبيعه من أجل لقمة العيش. تشير لي إلى أن الطابونة أفضل من الخبز الأبيض، لأنه لا أحد يرميها كما نفعل مع الباڨات. ومع ذلك، عندما تتذكر الپتي پان (petit pain) أيام المدرسة، تلمع عينيها. "كان بالفرينة لكنني كنت آكله وكان لذيذا. خبز لذيذ مع حليب ساخن!”.

أما اليوم، لقد هجر الپتي پان (petit pain) المدارس. تم تصور البرنامج الأمريكي "الغذاء من أجل السلام" كخطة مؤقتة ذات أهداف محددة. لقد جعل من الممكن تجنب الثورة وغيابه اليوم ترك إحساس أكبر بالحرمان. "حاليا، لا يعطونهم الحليب أو الخبز في المدرسة، لا شيء. حتى أنهم لا يقدمون لهم الماء"، تأسف حليمة.

تم نشر هذه المقالة لأول مرة في مجلة برودو.


تجد هنا بعض وصفات الخبز المجتمعية التقليدية

An image for illustration © Canva

Failed to retrieve recommended articles. Please try again.