"من وين بنتك؟" هو ليس سؤالاً غير عاديٍ في لبنان. تعني كلمة "بنت" بالعربية "فتاة"، إلا أنها في هذه الحالة تشير إلى مدبرات المنزل، أو الخادمات، أو المربيات، اللواتي يعملن في لبنان بموجب نظام الكفالة. إنه مصطلح محمَّل يشير إلى الآلاف من العاملات الإفريقيات والآسيويات اللواتي يأتين إلى لبنان في كل سنة
انتقلت غريس* إلى لبنان قبل خمس سنوات باحثة عن فرص أفضل. وقتها كان عمرها 38 عامًا، وكان بلدها توجو غير مستقر، ووعدها العاملون في مكتب الاستقدام بوظيفة جيدة كعاملة مقيمة في منازل بيروت.تقول غريس إنها تفاءلت بعض الشيء في البداية. ومع أن معاشها كان قليلًا، إلا أنه كان يسمح لها بتحويل المال إلى بلدها حيث كانت عائلتها في أمس الحاجة إليه. لكن سرعان ما تحول تفاؤلها هذا إلى فزع مروع. فالسيد—اللقب الذي جعلوها تستخدمه في الإشارة إلى رجل البيت الذي كانت تعمل فيه—كان يضربها بشكل متكرر، ولم يكتفِ بذلك.
يبدو الذعر على وجه غريس وهي تحكي حكايتها.
تقول "كان عندي مشكلة اغتصاب،" وتنظر بعيدًا ويزداد تعبير وجهها جمودًا.
أرادت غريس الهروب من قسوة رب العمل ومعاملته السيئة بأي ثمن، ففرت من المنزل. لكنه مع الأسف كان صادر جواز سفرها، وهو إجراء معتاد في نظام الكفالة في لبنان. سلم الجواز إلى الشرطة وأخبرهم إنها قد فرت من المنزل، ليعفي نفسه بذلك من مسؤوليته عن سلامتها.
والآن صارت غريس هاربة في نظر القانون. لا يسمح لها بالبقاء في لبنان، ولكنها غير قادرة على الرحيل لأن الحدود مغلقة. إذا طلبت المساعدة من السلطات جازفت بالحبس في واحد من سجون لبنان سيئة السمعة، حيث لا تعلم إن كانت سترى ضوء النهار مرة أخرى.
غريس ما هي إلا واحدة ضمن آلاف عاملات المنازل المهاجرات في لبنان، من ضحايا نظام الكفالة. يجرد نظام الكفالة العاملات من حقوقهن ويجبرهن على البقاء مع أصحاب العمل. ولا يسمح لهن بتغيير الوظيفة أو مغادرة البلد من دون إذن الكفيل.
القانون اللبناني – جذر المشكلة
هناك نحو 250 ألف عاملة منزل من المهاجرات يعملن في لبنان تحت نظام الكفالة مثل غريس. معظمهن يأتي من أثيوبيا وسري لانكا ونيبال والفيليبين.بدأ نظام الكفالة في دول الخليج، وجاء لبنان بعد الحرب الأهلية. وفي ظل هذا النظام تستبعد عاملات المنازل المهاجرات من قانون العمل. وهكذا يصبحن ممتلكات يتحكم صاحب العمل والكفيل بالكامل في وضعهن القانوني وإقامتهن، ما يجعلهن عرضة للاستغلال والإساءة.
ولقد زادت الروايات عن المعاملة السيئة لدرجة جعلت أثيوبيا ونيبال والفيليبين تمنع مواطنيها من السفر إلى لبنان للعمل. ومع ذلك لا تمنع الحكومة اللبنانية دخول هذه الجنسيات إلى البلد. ولا يغطي الإعلام المحلي سوى الحالات الفجة منها.
تقول فرنسيس*، سودانية تعمل في جنوب لبنان، إن عاملة من غانا كانت تتعرض إلى الإساءة من صاحب العمل ولم تحصل على معاشها كاملًا قط. ساعدها شخص من كنيسة بالمنطقة ووفر لها الطعام وأقنع صاحب العمل في النهاية بأن يدفع ثمن تذكرة عودتها إلى بلدها.
وتضيف فرنسيس قائلة إن عاملة من كينيا، تعيش في لبنان منذ 2016، كانت تتعرض للضرب بشكل دائم على يد أصحاب العمل وكانوا يجبرونها على النوم في المطبخ.
وتخلص فرنسيس إلى أن "نظام الكفالة عبودية حديثة."
تعيش غريس في الظل.
تقول "إذا تحدثت إلى الشرطة يقبضون علي. ليس لدي تصريح بالإقامة."
ومن دون تصريح العمل، الذي لا يأتي سوى من خلال الكفيل، لا يمكنها العمل بشكل قانوني. هي الآن تعمل في تنظيف المنازل عند أربع عائلات، وتعيش في سكن مشترك خارج بيروت.
إن قانون المواطنة اللبناني يعقد وضع أطفال العاملات المهاجرات. فالطفل من أب غير لبناني لا يحق له الحصول على الجنسية اللبنانية، حتى وإن ولد على أرض لبنانية. لا يتمتع أطفال عاملات المنازل المهاجرات الذين ولدوا في لبنان بنفس حقوق المواطنين اللبنانيين، ويعيشون خائفين من الترحيل إلى بلد لا يعرفوه.
المئات نزلوا إلى الشوارع قرب بيروت بتاريخ ٢٤ حزيران للاحتجاج على نظام الكفالة، الذي يجرد العمال المهاجرين من حقوقهم ويربطهم بمشغليهم. | ©أنطوان أبو ديوان
فشل تشريعي
في تقرير هيومن رايتس ووتش بشأن ما يزيد عن 100 قرار تشريعي يخص عاملات المنازل المهاجرات، كانت الخلاصة أن نظام التشريع اللبناني عاجز عن حماية حقوق هؤلاء العاملات، وأن الجهات الأمنية لا تحقق بما يكفي في دعاوى الإساءة أو العنف.الوضع بالنسبة للخادمات خصوصًا شديد السوء. يتعرض كثير منهن للحبس في منازل أصحاب العمل. لا يحصلن على إجازة، ويجبرن على العمل مدة تصل إلى 20 ساعة في اليوم، وكثير منهن لا يسمح لهن بالتواصل مع عائلاتهن في بلادهن. المعاش يمنع عنهن. والعديد من الخادمات المقيمات بالمنازل لا يحصلن على أي خصوصية، ويجبرن على النوم في الصالون أو المطبخ أو الشرفة. كثير منهن تعرض لاعتداءات نفسية و/أو بدنية. وتصل الإساءات إلى درجات من القسوة والحدة تجعل النساء يبحثن عن أي وسيلة للهرب، كالقفز من شرفات أصحاب العمل، حتى وإن أدى ذلك إلى إصابة خطيرة أو الموت.
جاء في تقرير لهيومن رايتس ووتش أن في الأسبوع الواحد تموت واحدة من عاملات المنازل المهاجرات في لبنان لأسباب غير طبيعية، منها الانتحار ومحاولات هرب تؤدي إلى الموت. ويقال إن عدد الوفيات الحقيقي أعلى من الرقم الرسمي.
المئات نزلوا إلى الشوارع قرب بيروت بتاريخ ٢٤ حزيران للاحتجاج على نظام الكفالة، الذي يجرد العمال المهاجرين من حقوقهم ويربطهم بمشغليهم. | ©أنطوان أبو ديوان
قال نديم حوري، كبير الباحثين في هيومن رايتس ووتش: " مطلوب من الجميع ــ من السلطات اللبنانية إلى سفارات العاملات إلى مكاتب الاستقدام، إلى أصحاب وصاحبات العمل ــ أن يسألوا أنفسهم عن السبب الذي يدفع بهاتين النسوة لقتل أنفسهن أو للمخاطرة بحياتهن في محاولة للفرار من مبان مرتفعة."
ما يزيد الأمر قسوة أن العاملة التي تنجو من سقوطها من الشرفة أو التي تنجح في الهرب تحتجزها الشرطة لتعيدها قسرًا إلى أصحاب العمل، حيث تستمر الإساءات.
انتصارات صغيرة للعاملات المهاجرات
.بالرغم من قسوة وضع عاملات المنازل المهاجرات، إلا أن عدد من المنظمات غير الهادفة للربح يساندهن ويعمل دفاعًا عنهن. ولقد حققت العاملات المهاجرات بعض الانتصارات.
في الحالة استثنائية قبل عدة سنوات قاضت خادمة صاحب العمل من أجل الحصول على جواز سفرها الذي صادره بحجة أنها لم تكمل مدة عقدها. حكم القاضي في صالح العاملة قائلًا إن صاحب العمل حرمها حرية الحركة.
والآن صار في لبنان أخيرًا عقد موحد لعاملات المنازل المهاجرات وأصحاب العمل كما يقول رامي شكر، مسؤول برنامج في حركة مناهضة العنصرية (ARM)، وهي منظمة لبنانية غير هادفة للربح.
يقول: "نادرًا ما يقرأ أصحاب العمل والمهاجرات العقد. ولا يكتب العقد بلغة المهاجرة."
أسست حركة مناهضة العنصرية عدة مراكز للعاملات المهاجرات لتقديم الدعم المجتمعي والتمكين. تتضمن الأنشطة ورش عمل عن الحقوق القانونية والسلامة، ودروس حاسب آلي بالإضافة إلى دروس في اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.
يقول شكر: "نحن نؤمن بالعاملات المهاجرات، والجميع يجب أن يكون لديه حقوق سياسية."
ويضيف قائلًا إن الرأي العام يعي بشكل أفضل ضعف موقف العاملات المهاجرات وتعرضهن للاستغلال.
المئات نزلوا إلى الشوارع قرب بيروت بتاريخ ٢٤ حزيران للاحتجاج على نظام الكفالة، الذي يجرد العمال المهاجرين من حقوقهم ويربطهم بمشغليهم. | ©أنطوان أبو ديوان
في الوقت الحالي لا تتوقع العاملات المهاجرات أن تغير الحكومة اللبنانية موقفها فجأة فتلغي نظام الكفالة وتدرجهن تحت قانون العمل. لكنهن مستمرات في الحديث عن الوضع ويتحركن بأنفسهن لتحسينه ويطالبن بحقوقهن بشكل منتظم في المسيرات والاحتجاجات.
*غيرت الأسماء حفاظًا على سلامة الأشخاص.
٢٠١٩ مارس