النجاة في عالم الفن  2 د الانتعاش الفني السعودي يفتح الباب أمام المواهب المحلية، لكن الكثيرين يكابدون للتفرّغ لذلك

شارع، ممشى كورنيش جدة، في المملكة العربية السعودية بنمط من الألوان. يقف شخصان في الخلفية يتحدثان مع بعضهما البعض. الشارع محاط بأشجار النخيل.
تشهد المدن في جميع أنحاء المملكة في السنوات الأخيرة فورة في الألوان والألوان والألوان والحياة في جميع أنحاء المملكة، مع تخفيف الرقابة المشددة للمؤسسات الدينية على الأماكن العامة. ويعد ممشى الكورنيش في جدة مثالاً بسيطاً على هذا الانفجار في الألوان. ©جواهر الغامدي

تشهد الملكة العربية السعودية فورة ألوان حديثة النشوء. فالمملكة التي باتت تُعرف منذ زمن بعيد بقوانينها الاجتماعية المحافظة والمتشددة، يتنامى لحظها في كافة أرجاء العالم على أنها تشهد حراكاً ثقافياً وفنياً زاخراً تعمل الحكومة على الترويج له بكل همة ونشاط وهي تحث الخطأ نحو خطة تهدف من ورائها إلى تنويع دخلها بمعزل عن النفط.

والنتيجة بعيدة الغور: فمن رسومات تضجّ بالحيوية بُعثت للحياة على جدران المقاهي والجداريات التي أضفت حيوية على الأرصفة، إلى المناسبات الكبرى كاحتفال نور الحالي الذي يضيء ليالي الشتاء ذات البرودة المنعشة في الرياض، وصانعي الأفلام الذين يتوافدون من كل حدب وصوب إلى مهرجان جدة السينمائي، يقف الجمهور السعودي والعالمي مبهوراً أمام ذائقة جديدة للفن المحلي وإحساس حقيقي بالمواهب المحلية.

لكن في خضم هذه الطفرة الفنية والتحول السريع، يفصح صراع آخذ بالتكشّف عن بعد يغفل عنه المشاهدون: الفنانون غير قادرين على الموازنة بين التفرغ للإبداع الفني وهو الشيءالذي يبتغونه، والوظائف الأخرى التي هي عملهم الدائم. ذلك أن فرص التمويل الحكومي والخاص محدودة، بالإضافة إلى السوق الفني السعودي الفتي، ما يعني أنه ليس باستطاعتهم الاعتماد على الفن كمصدر رزق وحيد.

"فنان متفرّغ؟ هذا ما أحب أن أكونه، لكني لا أعتقد أن ذلك يمكن أن يحدث" يقول عبد العزيز المجاثيل، الخطاط والمصمم المعروف. من ورشة عمله في الباحة، المدينة الواقعة جنوب غرب السعودية يقول الفنان إن لوحاته القماشية ورسوماته العالية الجودة تحتاج إلى ميزانية خاصة بها، وإنه بالرغم من نجاحه في الحصول على "دخل كبير" من مجموعة عملاء الشركات ومقتني الفن الذين يشترون أعماله الفنية، إلا أنه يبقى بحاجة للتفرغ لوظيفته كمدير إداري.
استطاع عبد العزيز المجاثيل، وهو خطاط ومصمم معروف، أن يحقق عائدات مجزية من بيع أعماله الفنية لجامعي الأعمال الفنية للشركات، لكنه يقول إن تكلفة الإنتاج لا تزال تجعله يعتمد على عمله اليومي.

استطاع عبد العزيز المجاثيل، وهو خطاط ومصمم معروف، أن يحقق عائدات مجزية من بيع أعماله الفنية لجامعي الأعمال الفنية للشركات، لكنه يقول إن تكلفة الإنتاج لا تزال تجعله يعتمد على عمله اليومي. | ©علي الغامدي


"هناك عدد لامحدود من الاحتمالات عندما يتعلق الأمر بتحصيل ربح كاف من الفن، إلا أن ذلك يتطلب مهارات تسويقية جيدة، وارتباطات، وقدرة على إتقان مهارات فنية معينة" ينبغي أن تُكتسب وتُطور، يشرح عبد العزيز. وهذا، يضيف قائلاً، يحتاج إلى تفرّغ كامل، عندما يكون عمله الإداري "مرهقًا ويؤثر بشكل سلبي على انخراطه بالفن"، إلا أنه ضروري كمصدر دخل مستدام.

هذا، وعلى الرغم من الموجة العارمة التي شهدتها الفرص التمويلية بالإضافة إلى الخيارات التي يستطيعون من خلالها بيع أعمالهم الفنية، يقول الرسامون إن هذه الفرص ليست في الغالب مجدية كثيرًا أو ليست مناسبة بالضرورة، وذلك لتقيدها بأجزاء معينة من البلاد.

التوفيق بين الكثير من الأشياء

خلال العقد المنصرم، قلّصت السلطات السعودية من سلطة المؤسسات الدينية التي قيدت سابقاً بشكل كبير الفضاء العام، وحدت في الماضي من حريات الفنانين في التعبير عن أنفسهم وعرض أعمالهم.

ليلى الحامد، مديرة مدرسة في جدة نهاراً، ومؤلفة كتب ورسّامة ليلاً، بالإضافة إلى كونها زوجة وأم لولد، جهدت لترسيخ موطئ قدم لها في المشهد الفني المحلي الذي يشهد توسعاً سريعاً. فبتصويرها لطبيعة مسقط رأسها ومعالمه الطبيعية، وقصص النساء الريفيات في كتبها التي تم إغفالها، نجحت في جذب جمهور يتذوق الفن إلى العديد من المعارض التي عرضت أعمالها عبر السنين، وعرض بعض أعمالها الفنية في الأماكن العامة كجزء من عدة فعاليات. بالإضافة إلى إدارتها للعديد من ورشات العمل عن الرسم وتاريخ الفن.

وعلى الرغم من هذه الإنجازات، إلا أنها تشعر أن إتقان العمل في فرص كهذه لا يأتي إلا بعد جهد جهيد من الناحية العاطفية والبدنية. في ظل مشهد فني سريع التطور، لا تستطيع السيدة الحامد تتبع جميع فرص التمويل الناشئة، وتعترف أن فرص الرعاية والتمويل المتوفرة التي هي على علم بها محدودة للغاية. "إن كمية الرسومات التي أُنتجها وجودتها لن تكون كافية لإعالتي ماديا قط" وتضيف قائلة إن "طبيعة عملي المستنزفة للذهن والبدن لا تتيح لي إلا القليل من الوقت للتركيز على عملي او البحث عن منصات أو منافذ جديدة".

وهذا بدوره يخلق مستوى جديداً من الجهد العاطفي والذهني. "بالنسبة لي الفن أكثر من مجرد شغف، إنه طريقتي في التعبير عن هويتي وتطهير الذات. إن عدم قدرتي على القيام بذلك بسب التزاماتي الأخرى يؤثرعلى ذهنيًا وعاطفيًا"، تشرح ليلى.

وحتى بالنسبة للقادرين على الدمج بين أعمالهم الفنية وأعمالهم اليومية، مثل مدرّس الفنون في المدارس العامة عارف الغامدي، فإن ضيق الوقت الذي تفرضه عليهم وظائفهم يتسبب بالكثير من الفرص الضائعة. الغامدي، الرسام المعروف، والذي يملك معرضاً فنياً خاصاً به في الرياض، وعُرضت أعماله الفنية في إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة، يستخدم دروسه في الفن مع طلاب فتية لتعليم أسلوبه في الرسم التجريدي الذي يدمج المدرسة التكعيبية والسريالية مع تأثر واضح بالإسباني ذائع الصيت سلفادور دالي.
 
 يقول عارف الغامدي، وهو رسام مخضرم، إن وظيفته اليومية المتمثلة في تدريس الفن في المدارس الحكومية كانت مصدر إلهام وتحفيز، حيث يستمتع بنقل مهاراته إلى الطلاب ويتعلم أيضًا من إضافاتهم. مستخدمة بإذن.

يقول عارف الغامدي، وهو رسام مخضرم، إن وظيفته اليومية المتمثلة في تدريس الفن في المدارس الحكومية كانت مصدر إلهام وتحفيز، حيث يستمتع بنقل مهاراته إلى الطلاب ويتعلم أيضًا من إضافاتهم. مستخدمة بإذن. | ©خاص



"إن التحدث مع طلابي عن الفن يقدم لي منظورًا جديدًا، ويتيح لي تعليم أسلوبي والالتزام بالفن"، يقول الفنان بطريقته الهادئة. إلا أن أساليبه الواثقة لا تستطيع ان تخفي حبه العميق للفن والوقت الذي يقضيه في العمل على الرسومات. "إن الاستحواذ على ذائقة الجمهور الفني يتطلب إنتاج أعمال فنية ذات مواصفات عالية، ما يتطلب من الفنان سنوات من التعلم والتدرب، والتفاني،" يقول عارف، مضيفًا إن الالتزام بالفصول الدراسية، يفوّت عليه الكثير من فرص الاشتراك في المعارض والفعاليات الوطنية والدولية.

بداية صعبة

بالنسبة لأولاء الذين يرغبون في الشروع بمهنة الفن، فإن معرفة من أين تبدأ وكيف تبدأ نادرًا ما يكون يسيرًا. أحمد عبد السلام جورة، خريج هندسة في منتصف العشرينيات من العمر، اكتشف حبه وشغفه بالخط العربي عندما كان لا يزال طالبًا. وحاول منذ ذلك الوقت أن يزود نفسه بالمعرفة والمهارات.

إلا أن هذا ليس بالمسعى اليسير. فبين البحث عن عمل دائم لكسب العيش، ودفع الموارد القليلة التي بحوزته لقاء ورش عمل ودورات على الإنترنت، يخشى جورة ألا يستطيع الاستمرار في ذلك طويلاً. "أتقدم بطلبات للحصول على التمويل ومحاولة إيجاد طرق لعرض أعمال الخط الخاصة بي على منابر مختلفة، غير أنه إذا بقيت على هذا المنوال، فإني قد أُجبر على التخلي عن سعيي إذا ما حصلت على وظيفة دائمة، ذلك لأن العمل التسويقي مرهق ويتطلب النهوض به وكلاء فن محترفين"، يقول الفنان الشاب في حالة من اليأس.
 
يكافح الخطاط الناشئ أحمد جورة للعثور على فرص لعرض أعماله في مشهد فني سريع النمو، ولكنه تنافسي في الوقت نفسه.

يكافح الخطاط الناشئ أحمد جورة للعثور على فرص لعرض أعماله في مشهد فني سريع النمو، ولكنه تنافسي في الوقت نفسه. | ©أحمد جورة


أحمد المنتشري، أستاذ مساعد في الفنون والذي طلب عدم استخدام وظيفته الجامعية لأنها تشكل رؤيته الشخصية التي يشاركها كفنان، يقول إن التفرغ الوظيفي لا يؤثر على موهبة الفنان والتي يصفها بانها موروثة بالفطرة، "إلا أنها تؤثر بالفعل على مهاراته،" يقول أحمد، ويضيف إن ذلك يشكل عائقًا كبيراً للمبتدئين مثل جورة، أو الفنانين ذوي الخبرة من أمثاله. ويخلص المنتشري إلى أنه في بعض الأوقات، "يثبط الدمج بين العمل الأكاديمي والفن همم الكثيرين ما يجعلهم يعزفون عن ممارسة الفن."

نُشرت هذه المقالة بالتعاون مع إيجاب.