لبنان

٣٠.١١.٢٠٢٣

الاقتصاد الاجتماعي والاستدامة  5 د الأزمة الاقتصادية والاستهلاك: كيف تغيرت أنماط الإستهلاك في لبنان؟

We highlight three professions that have witnessed changes in customer demand, revealing the shifts in Lebanese consumption patterns. ©Firas Hamiye

وصل اللبنانيون إلى حالة يرثى لها من النواحي الاقتصادية والمالية أثرت بالتالي على أوضاعهم الاجتماعية وأنماط إستهلاكهم وقدرتهم الشرائية. تعدلت أنماط الاستهلاك عند اللبنانيين التي كانت رائجة طيلة ثلاثين سنة من عمر تثبيت سعر الصرف اللبناني للعملة الوطنية أمام الدولار على سعر 1500 ليرة لبنانية لكل دولار ووصوله اليوم إلى ما يقارب المئة ألف ليرة لبنانية لكل دولار واحد.

الانهيار المالي أصاب بشدة الطبقات المتوسطة الدخل والطبقات الكادحة، وأحدث تبدلًا في أنماط استهلاك الطبقات كافة على السواء. من كان يعتبر من الطبقة المتوسطة بات بلمح البصر على مقربة من الطبقة الفقيرة بعدما تراجعت القدرة الشرائية لراتبه بنسبة 80% وأكثر (موظفو القطاع العام وهم الشريحة الأكبر من اللبنانيين)، أو بفعل خسارته لوديعته المصرفية بعد احتجازها في المصارف. أخرون انتعشت قدرتهم الشرائية وقيمة رواتبهم خصوصًأ ممن يعملون في قطاعات تدفع أجور موظفيها بالعملة الخضراء أو "الفريش دولار" كما بات معروفًا في لبنان.

 وبات كثير من اللبنانيين يبحثون عن بدائل لتلافي جحيم الأسعار الملتهبة التي أصابت كل مقومات الحياة اليومية والمجالات الحيوية الكافة. هذه البدائل جعلت شكل الإستهلاك أكثر استدامة من جهة، يمكن الإشارة إلى تراجع كبير في استهلاك الورق والقرطاسية والتقشف في المدارس والجامعات والمؤسسات بسبب قيمته المرتفعة، ويمكن الإشارة أيضًا إلى ازدياد معدل عمر الملابس ودورة حياة العديد من المواد وانتشار ثقافة الشراء المستعمل second hand وانتشار ثقافة المقايضة (السيارات والآلات الكهربائية والأثاث المنزلي وغيرها).

كثير من اللبنانيين باتوا يقتصدون في استهلاك الكهرباء، وصارت الإنارة تقتصر على الغرفة المأهولة فقط، بعدما كانت المنازل "تشعشع" إنارتها ليلًا ونهارًا، بينما اليوم ومع انقطاع كهرباء الدولة وانتشار مولدات الكهرباء الخاصة صار المواطن يحسب حساب كل شاردة وواردة. ترشيد الاستهلاك من الكهرباء إلى مياه الصرف الصحي ومياه الشرب وحزمة الإنترنت مما يعني نفايات أقل. وكما انحسرت ثقافة استجلاب الخدم للعمل المنزلي.

 ظاهرة أخرى اجتاحت المجتمع اللبناني في المدن والأرياف كانت ظاهرة انتشار الطاقة الشمسية بغية تخفيض الكلف المالية المرتفعة التي يطلبها موردو القطاع الخاص وبغية توفير الكهرباء لساعات أطول في اليوم.

 وبسبب ارتفاع أسعار الواردات لجأ كثيرون إلى بدائل تصنيع محلية وارتفع الاهتمام بالزراعة للاستهلاك المنزلي وارتفع الطلب على المنجات الزراعية المحلية. أنتجت الأزمة المالية ما يمكن تسميته بتغيرات في "اقتصاد القيم" بما يشمل الأطعمة والألبسة ومجالات الترفيه والأخلاق والسلوكيات اليومية عند فئات عريضة من اللبنانيين.

في هذا التقرير نسلط الضوء على ثلاثة مهن شهدت تغيرًا في طبيعة إقبال الزبائن عليها، ومن خلالها يمكن الغوص أكثر على ما وصلت إليه أنماط استهلاك اللبنانيين.

الكندرجي.. تراجع الطلب على المنتجات المستوردة

الكندرجي أبو ياسر حميد، 62 عامًا، الملقب ب"الساحر الصادق" لديه محل في بيروت وتحديدًا في منطقة عائشة بكار، يشارك تجربته بالقول "قلبي وعقلي مع مهنة السكافة، وفي عام 1996 اتخذتها كمهنة بشكل دائم بعدما تعلمت جميع مراحلها من ساسها إلى راسها".

ويشير إلى أن العمل كان يدويًا فيما مضى، بينما اليوم هناك آلات سهلت العمل كثيرًا وبات استنباط الحلول لإعادة تصليح الأحذية أمرًا أكثر إمكانية وأسرع. وقام أبو ياسر بتطوير مهنته فبدأ "بتصليح الجزادين النسائية وشنط السفر وشنط المدرسة وشنط اللابتوب والقشاطات وغيرها. فكل شيء يمكن إصلاحه، لذلك بت مقصودًا من قبل الزبائن، فكل عطل له حل عندي".

يشير بالقول "هناك ناس لديهم أحذية مهملة منذ عشر سنوات وقد ارتأت أن تعاود استخدامها"، ويرى "قبل عام 2019 كان من السهل رمي الأحذية وشراء أخرى جديدة. ولكن اليوم صار صعبًا معاودة شراء أحذية كل شهر، وقد تبين ذلك من خلال إقدام المواطنين على تجديد الأحذية القديمة جدًا والتي صار موديلها قديمًا ولم تعد موضة دارجة". ويؤكد أن الموديل الجديد يهم الصبايا والشباب ولكن من هم فوق 40 سنة فباتت الجودة هي ما يهم بالنسبة لهم.
 

“يصرح بالقول "قبل عام 2019 كان كل شي طبيعي والشغل ماشي وكان الجميع يرتادون محلي للتصليح، ولكن بعد الانهيار المالي الذي شهده لبنان منذ بداية عام 2020 تغيرت الأمور جدًا في البلد". ويضيف أن الحجر الصحي بفعل كورونا أثر على عمله طيلة سنة ونصف السنة، ومن ثم وصل سعر صرف الدولار إلى 8 آلاف ليرة عام 2020 ووصل إلى 15 ألف ليرة عام 2021 ووصل إلى 37 ألأف ليرة عام 2022 إلى أن استقر عند مئة ألف ليرة هذا العام. يصرح قائلًا "تأثرت مهنتي كثيرًا لأني أشتري البضاعة بالعملة الصعبة وبالتالي بت مضطرًا للتسعير بأسعار مرتفعة فالزبون ليس لديه دولار ويريد أن يدفع بالليرة المحلية".

وبالنسبة لأسعاره يقول "القطعة أو التصليحة التي كنت أقبض لقاءها 10 دولارات بت اليوم أخذ لقاءها 5 دولارات أو أقل أحيانًا، وبات من الصعب طلب مبالغ خيالية من الزبائن حتى استمر في العمل". ويفسر بأن الإقبال على التصليح الشعبي العادي للأحذية الوطنية والصينية، وأما تصليح الأحذية الفرنسية التي تتطلب مواد ومستلزمات مستوردة من الخارج وجلود ذات جودة فإنها ذات تكلفة كبيرة وقد تراجعت كثيرًا ولا زالت حتى يومنا هذا في تراجع.

الكندرجي.. نفايات أقل تصدر من قطاع الألبسة

"قديمًا كان زبائني من الطبقة الفقيرة وأما اليوم فبات أبناء الطبقة الوسطى والأغنياء يأتون إلى محلي". ويعطي مثالًا بالقول "جاء زبون وفي يده حذاء كان قد رماه في العلية/التتخيتة وطلب تصليحه بغية التوفير وعدم شراء حذاء جديد"، يحكي الكندرجي أبو فضل، صاحب محل صغير جدًا، حجمه متر في العرض ومتران في الطول، في منطقة ضاحية بيروت الجنوبية. ويرى بأن الأحذية القديمة أو المهترئة أو تلك التي انتهت موضتها صارت الأن قابلة للاستعمال من جديد. رفض أبو فضل الكندرجي، 70 سنة، الكشف عن اسمه، وشارك تجربته بالقول "أعمل في هذه المهنة منذ 50 سنة وأتعامل مع كل الطبقات".

 يحكي أبو فضل عن أن تصليح الجزادين النسائية لاقى رواجًا أكبر بعد الأزمة، خصوصًا وأن الجزادين باتت أسعارها مرتفعة جدًا، لذا فالكثيرين يلجأون إلى تصليحها مما يعني نفايات أقل أصبحت تصدر من قطاع الألبسة. يصف الحالة اليوم بقوله "كانت هذه المهنة قديمًا قادرة على إعالة عائلة كبيرة وأما اليوم باتت لا تكفي نفرًا واحدًا". ويشير "ارتفع الطلب على شغل الكندرجية لكن لا فائدة من المردود المالي لأني أدفعه لقاء المواد الأولية وأجرة اشتراك الكهرباء حيث ليس هناك كهرباء من الدولة".

البالة.. نمط إنتاج صديق للبيئة

بدأت القصة مع شاب تبرع للناطور بثيابه، ولكن مقاييس الألبسة لم تتوافق بين الشاب والناطور الذي قام برمي الألبسة. من هنا بدأ الشاب يجمع الثياب المستعملة من الجيران والأصدقاء ويخرج برفقة صديقه بواسطة الباص لبيعها في إحدى الساحات ضمن مناطق لبنانية مختلفة. وهكذا نشأت الفكرة لدى الشاب عمر عيتاني لتأسيس مؤسسة Fabric aid، ومن ثم طور فكرته عام 2016 وأسس عام 2017 مؤسسته وقام بتسجيلها في السجل التجاري بشكل قانوني عام 2018.

مديرة التسويق في مؤسسة "فابريك إيد"، لوليا حلواني، 29 سنة، أشارت في حديثها إلى أن "فابريك إيد مؤسسة اجتماعية". وتهدف المؤسسة إلى جمع الألبسة، فرز الثياب إلى مجموعات، غسلهم وكويهم، ومن ثم بيعهم من جديد بأسعار رمزية في "سوق الخلنج". وترى حلواني بأن الأسعار في متناول الطبقات الفقيرة والفقيرة جدًا ذات المداخيل المحدودة، حيث يمكن إيجاد ألبسة سعرها نصف دولار واحد.
 

وأما "سوق عكاظ" فقد افتتح عام 2020 بعد الأزمة المالية وذلك لاستهداف الطبقة المتوسطة بعد الضرر الكبير الذي أصاب رواتبها وقدرتها الشرائية. تشير حلواني إلى أن "الطبقة المتوسطة كان بمستطاعها في السابق تحمل شراء ماركات عالمية ولكنها الأن غير قادرة على القيام بذلك فالرواتب صارت لا تكفي الطعام والشراب".

وترى حلواني أن "الهدف إعطاء الناس تجربة تسوق كريمة تتضمن جمالية ومتعة حيث يستطيع الشخص اختيار الملابس التي تناسبه، أن يدخل إلى غرفة القياس، أن تتم مساعدته من قبل الموظفين، أن يشعر بأنه أحب الملابس التي اختارها، وأن يدفع بكرامته ومن ثم يحمل كيسًا بتصميم جميل ويرحل". ومن هنا تحدد حلواني بأن "الهدف الأساسي يكمن في السماح للناس عيش تجربة التسوق بأسعار مقبولة ورمزية وهي عملية مختلفة جدًا عن العطاء المجاني.

أهمية المؤسسة تكمن في كونها تقدم حلًا على نطاق بلد بكامله وأمة بكاملها. فالمؤسسة بدأت بافتتاح فروع لها في مصر والأردن، فهناك 77 مليون مواطن عربي غير قادرون على شراء الثياب، حسب قولها. لذلك "فمشروعنا مستدام ويقوم بتأمين تكاليفه من مصادر عدة عبر التشبيك مع شركات عالمية أخرى بغية إزاحة التكاليف عن كاهل المواطنين ذات المداخيل المحدودة".

وحتى الثياب المهترئة تقوم الشركة بالاستفادة منها وإعادة تدويرها في صناعة الشنط والجزادين وغيرها من المستلزمات المهمة، حيث لديها 100 مكنة خياطة. تشير حلواني "افتتحنا مدرسة لتعليم الخياطة في لبنان وبدأنا التدريب، وسيكون هدف المدرسة تعليم الناس كيفية خياطة ثياب جديدة من الثياب القديمة".

الخياطة.. تصليح الملابس عوضًا عن رميها

جانيت خضرا، مواليد 1971، ومن سكان عين الرمانة في بيروت. افتتحت جانيت محلًا للخياطة منذ أربع سنوات وقد شهدت على التحولات في أوضاع اللبنانيين وأنماط وأمزجة استهلاكهم وقدراتهم الشرائية حيث أنها عاصرت حقبة تثبيت الدولار أمام الليرة اللبنانية لغاية عام 2019.
 

في هذا السياق، تشير جانيت بالقول "قديمًا كانت نوعية عملي غير معقدة مثل الأن، فقد كنت أقوم بتقصير البنطلون أو الفستان وتغيير السحابات والأزرار، وكانت هذه أغلب طلبات الزبائن. أما اليوم صرت أقوم بتجديد قطعة الملابس عدة مرات وأحاول إصلاح الأضرار من جديد كل مرة وربما تكون قطعة الملابس متضررة في أكثر من مكان"، وتضيف "أصبح عملي أصعب، أحيانًا أقوم بإصلاح الملابس المصنعة من الجلود، أو أقوم بتغيير زنار القمصان والجاكيتات عند الرقبة، أو إضافة أقمشة إلى قطعة الملابس بغية ترقيعها وترميمها وجعلها قابلة للبس مجددًا"، وبذلك لم يعد يقتصر عملها على الخياطة وبات بحسب قولها "كأنما أعيد خياط قطعة الملابس من جديد". وترى بأن "الشغل صار أصعب والمصاري مع الناس أقل".

وتشرح جانيت تجربتها بالقول "الناس من الطبقات الفقيرة باتوا يلبسون قطع ثيابهم بدون تصليح. بينما قديمًا كان حتى الفقير يرتاد محلي ويطلب مني بعض التصليحات"، وتشير إلى أن الطبقة الفقيرة لم يعد بمقدورها تحمل تكاليف الخياطة. تعطي جانيت مثالًا حيًا على ذلك، حيث أن كثيرين باتوا "يلفون أسفل البنطلون عند القدمين لتجنب تقصيره"، وترى بأن هناك "العديد من الناس باتوا يصلحون ملابسهم في المنزل وهناك أشخاص عاودوا تصليح ثياب العائلة في منازلهم مثل تقطيب الأزرار بالإبرة والخيط، وأصبح هناك تصليحات غير مألوفة في الملابس".
وأما أبناء الطبقة الوسطى، كما ترى جانيت، فإنهم "باتوا يقومون بتصليح الملابس التي من المفترض رميها"، فمن لديه القدرة على تحمل نفقات التصليح اليوم فقد كان في السابق ميسورًا وربما أكثر من ميسور. وترى بأن "الفقير لم يعد يدخل إلى محلي إلا في حال قدمت له التصليحة كهدية مني له".

صحيح أن الأزمة أنتجت سلوكيات إستهلاك وإنتاج مستدامة وصديقة للبيئة، لكن من جهة أخرى، تفاقمت أزمات بيئية بسبب سلوكيات غير مستدامة أثرت على البيئة في لبنان، نذكر منها إرتفاع نسبة التحطيب أي قطع الأشجار واستخدامها في التدفئة في العديد من المحافظات سيما شمال لبنان ووصلت إلى معدلات مرتفعة جدًا، كذلك إرتفاع معدلات الصيد البرحي والبري وصيد الطيور بعد تهالكأنظمة الرقابة الحكومية.