"لدى فاروق حسني ضوء هو ضوء مصر، خليط من ماء النيل، ومياه البحر، والصحراء القاحلة. مثل الشاعر يقوم فاروق حسني باستثمار أقل لمساحة الأرضية، لكي تذوب في متعة الخيال والواقع، ليعطيان دون تفرقة ألوان، خطوط، أبخرة، تعرجات أو خطوط عميقة، خربشات، علامات تعجب، بقع شديدة الإضاءة، ومسطحات منزلقة".
عبر هذه الكلمات للناقد الفرنسي ميشيل نوريدساني، يمكننا الولوج لأعمال الفنان التشكيلي المصري فاروق حسني، حيث تمتزج المدرسة التجريدية والتعبيرية، في مجموعة متنوعة من اللوحات التي تحظى بحضور بارز للون الأزرق حيث البحر وذكريات الطفولة التي عاشها فاروق حسني في مدينة الإسكندرية.فاروق المولود عام ١٩٣٨، طالما كان مصدرًا للجدل، ليس فقط بسبب لوحاته، التي هاجمها الجمهور والنقاد المصريين وإعتبروها مجرد "شخبطة"، لكن أيضًا بسبب عمله كوزير للثقافة لمدة ٢٣ عامًا في نظام الرئيس المخلوع مبارك الذي أطاحت بنظامه ثورة شعبية في عام ٢٠١١.
ورغم ابتعاد معظم رجال نظام مبارك عن الأضواء والحياة العامة، فقد عاد فاروق حسني بمجموعة من المعارض الفنية واللوحات الجديدة، وتبرع ببيته ليصبح متحفًا عامًا ملكًا للدولة بعد رحليه.
حول رحلته مع الفن والسياسة دار معه هذا الحوار.
تحمل لوحاتك مشاعر متباينة وتساؤلات عديدة وسعي مستمر للتحرر، مما تريد أن تتحرر وإلى أي وما أبرز الأسئلة والهواجس التي تشغلك؟
أردد دومًا أن الإفصاح يفسد الفن، فالعملية الفنية من وجهة نظري طالما كانت حالة قائمة على المشاعر والعاطفة بالأساس، فعندما أرسم أكون في منطقة ما بين الوعي واللاوعي، لذلك فالرسم هو عملية تحرر من كل القيود، وبالتأكيد هناك هواجس تطارد كل إنسان، هناك هواجس مرتبطة بفكرة الحلم، والرغبة للوصول لمرحلة من الكمال الفني الذي لن يتحقق، وهناك هواجس أخرى مرتبطة بالزمن والوجود والإنسان.
ولدت وعشت طفولتك وشبابك في مدينة الإسكندرية بتاريخها وحضارتها العريقة وشاطئها المطل على البحر المتوسط، كيف انعكس لك على تكوينك وأعمالك؟
كل فنان تنعكس عليه بيئته خاصة في المراحل الأولى، فمثلا في الصحراء تجدهم كلهم شعراء لما يحيط بهم من عوامل ساعدت على تكوين ذلك من فراغ وسكون وصحراء الممتدة، أما في المدينة هناك أشياء عديدة تؤثر على الإنسان، فأنا مثلًا من مواليد مدينة الإسكندرية وهى مدينة ساحلية، وكذلك تتميز بوجود ثقافات متنوعة، وفي الفترة من منتصف القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين كانت مدينة فنية بإمتياز، فقد خرج من الإسكندرية عشرات المبدعين الأوروبيين مثل الكاتب اليوناني السكندري قسطنطين كفافيس، وكذلك الرسام المصري الكبير محمود سعيد، والمغني والملحن سيد درويش، والنشأة في في بيئة ومدينة مثل الإسكندرية في ظل وهجها الثقافي والحضاري في تلك السنوات بكل تأكيد كان مصدر تشجيع وإلهام كبير في طفولتي.
ماذا عن تجربة العبور للضفة الأخرى من البحر والسفر إلى فرنسا وبعدها روما كيف كانت هذه التجربة؟
كان البحر هو المحاور الأول في طفولتي وشبابي، وكانت هناك تساؤلات عديدة عن السفن القادمة من بعيد، وعن الضفة الأخرى من البحر، ورغبة ملحة في السفر واكتشاف ما وراء هذا البحر، وفي المدرسة كنت درست اللغة والثقافة الفرنسية، مما شجعني على خوض تجربة السفر، وعيش هذه التجربة، وبالفعل سافرت وخضت التجربة، وكانت أقرب لميلاد جديد.
لماذا إخترت المدرسة التجريدية تحديدًا لتكون بوابة لعالمك التشكيلي؟
لم اختار التجريد، ولكنني وجدت ذاتي تتحقق من خلال هذه الطريقة في التعبير، قبل سفري لفرنسا كنت أرسم لوحات بأسلوب تأثيري وأكاديمي، ثم جربت العديد من المدارس الفنية حتى جذبني التجريد، وعندما عدت لمصر وعرضت أعمالي، واجهت نقدًا شديدًا، وكان يمكنني أن أتوقف، أو أرسم بالطريقة التي يرضى عنها الجمهور والنقاد، لكنني حينها سوف أكون فنان كاذب ولن تصل أيضًا أعمالي للجمهور، لأنها غير صادقة، لذلك مع الزمن تفاعل الجمهور والنقاد مع الأعمال التجريدية، لأنها صادقة ومعبرة عن ذاتي وليست مفتعلة.
كنت وزيرًا للثقافة لمدة ٢٣ عام في ظل نظام حكم سلطوي وغير ديمقراطي كيف إنعكست هذه التجربة عليك كفنان؟
منذ اليوم الأول لتولي منصب وزير الثقافة، سعيت للحفاظ على مساحة الفنان بداخلي، وكنت أشعر أنني في مهمة للحفاظ على تراث وحضارة مصر، وظللت طوال تلك السنوات خارج عضوية الحزب الوطني الحاكم، وكنت أردد دائمًا أنني لم أولد لأكون وزير، لكنني ولدت لكي أكون فنان. فالمنصب بطبيعته زائل ومؤقت، أما الفن فمستمر ودائم.
٢٠١٨ أبريل