متفرقات  5 د خادم الحكاية: الحكواتي الفنان من منظور السياسة وعلم النفس والتاريخ

 فن الحكواتي كانفة/ساندرا وولف

يقال في الإنجيل "في البدء كانت الكلمة" ويحفل التوراة والقرآن وغيرهما من الكتب الدينية بالحكايات. تنتشر الأساطير والخرافات في العالم أجمع، فمن الحكايات الإفريقية الشعبية إلى الحكايات في اليمن ومصر وبلاد الشام وحكايات الإغريق وصولًا إلى حكايات الهند والصين وأقصى الشرق. الكلمات قوة خالدة، وكذلك فن الحكواتي. 


الكلمات لها قوة كبيرة تصل حد الخلود. الكلمات تشيخ أحيانًا لكنها تعاود الظهور في أماكن مختلفة وبلهجات متعددة وبسحر جديد، كذلك تفعل الحدوتة فهي تسافر عبر الزمن وعبر التاريخ والجغرافيا في أصقاع الأرض. تترك جزءًا من حمولتها وتحمل حمولة جديدة. فالحكاية يمكن أن نجدها في الشرق والغرب، عند العرب والمسلمين والمسيحيين وغيرهم من شعوب الأرض قديمًا وحديثًا. تطيرالحدوثة وتحط رحالها عند شعوب مختلفة بنسخ مختلفة لكن بجذور واحدة، فتتبدل أسماء الشخصيات والأماكن حينًا وتتعدل بعض الأحداث أحيانًا لكن نواة الحدوثة تعيش أبد الدهر.

أصل الحكي سياسة

يصادف تاريخ 20 آذار/مارس من كل سنة اليوم العالمي لفن الحكواتي. والحكواتي، كما يستدل من إسمه، هو الشخص الذي يحكي في مكان وزمان محددان ولجمهور محدد، أي أن الحكي مهنته. والحدوثة، أو الحدوتة باللهجة العامية، يعود جذرها اللغوي إلى حدث ويحدث، وهي عبارة عن حديث صغير. ويقال إن الحدوثة أصلها ليس عربيًا إنما فرعونيًا، وكذلك "توتة توتة خلصت الحدوتة"، فتوتة تعني في الفرعونية النهاية.

ولطالما كانت هذه المهنة مستغلة من قبل السلاطين لإعلاء شأنهم، فنجد في شعر المدح والهجاء أكبر دلالة فيما خص جوهرية الحكي، ويتمظهر ذلك بالثواب حين كان الحكائين والشعراء يمدحون السلاطين بحكيهم، أو بالعقاب الذي كان يتعرض له الحكائين والشعراء حين كانوا يكيلون الاتهامات والأوصاف والنعوت ويذمون الملوك والسلاطين بحكيهم.

يقول سقراط "تكلم كي أراك". لم يترك سقراط كتبًا كما تقول لنا حكايات تاريخ الفلسفة، لكنه ترك تعاليمه الشفهية التي كان يتلوها على مسمع تلامذته. وكان أن حكم عليه بالموت واستقبل الموت بعنفوان فيلسوف لأنه كان يعي أن خطاباته ستعيش بعده. وعبر التاريخ محطات كثيرة كانت فيها تهمة الحكي سيفًا مسلطًا على الرقاب ويتضح ذلك في قضية غاليليو غاليلي وجيوردانو برونو وفي اضطهاد المسرحيين باعتبارهم ناشرين للرذيلة من قبل الكنيسة في أوروبا قديمًا.

فالحكواتي يحكي حكايته ويمضي، وعلى المستمع ألا يضع القصاص وقصته تحت المقصلة بما يناسب معتقداته ومبادئه وقيمه. لأن الحكاية الشعبية نتاج تاريخ شعبي شفاهي تراكمي، ونتاج خيال ومخيال شعبي وخرافي وأسطوري. وهذا لا يعني أن الحكاية لا يمكن أن تكون تعبير فردي وتجربة ذاتية خاصة بالحكاء وغير موضوعية. من هنا يجب على المستمع أن يشعر بها ويستلذ من طيباتها أو ألا يستسيغها مثلها كأي فن أخر.

ففي الفن يجب دائمًا أن يكون عند الفنان شيء ليقوله للعالم. كذلك الأمر عند الحكواتي الذي يحكي حكايته. وداخل الحكاية يوجد نواة للحدوثة، وتحمل تلك الحدوثة رسائل ومعاني عدة. والحكي في حد ذاته سياسي، ويمكن الاستدلال بحكايات كليلة ودمنة التي كتبت على لسان الحيوانات تجنبًا للعقاب وهدفت للإضاءة على الظلم الذي يقاسيه الشعب، والتبصر بالحكمة، وعاشت حكايات الكتاب مئات السنين.

حدوثة الأطفال

حين يسرد الحكواتي حكايته إنما يفلسف العالم في حدوثته حتى وإن كانت موجهة للأطفال. فإنها تحمل مغزى تربوي أو أخلاقي أو اجتماعي أو فلسفي أو نفسي يريد أن يقوله الحكواتي على لسانه بطريقته الخاصة. وربما يعيد تشكيل سياق الحكاية بشكل مغاير مما يفعل حكواتي أخر. فكل حكواتي يرى العالم بلسانه المميز والخاص.

قد يستخف البعض ويتساءل "إنها مجرد حكاية لن تقدم ولن تؤخر"، وهذا القول مرفوض إذ أن الأدب والفن والنحت والرسم والفنون التشكيلية والعمارة والمسرح والموسيقى كلها فنون تنطق بأشياء حول العالم فتصوغ العالم من جديد. في كل مرة كانت تقول شيئًا جديدًا كان يولد العالم من جديد. وكذلك شأن الفن شأن العلم توأمان لا ينفصل تأثيرهما عن بعضهما البعض.

من هنا فإن الحدوثة هي بمثابة ممارسة للوجود، ولدى الحكواتي قناعة أن سرده لقصته سوف يؤثر في البشرية وربما يغير مسار التاريخ الاجتماعي. ويرى الحكواتي أن لحدوثته مفعولًا أعتى من مفاعيل القنبلة النووية في هيروشيما. ونجد أنه في أدب الأطفال وتحديدًا في سرد الحكواتي لحكايات الأطفال رؤية خاصة به تشكل المنظور الإيديولوجي لنشأة الأطفال وتربيتهم كما يراه منسجمًا مع رؤيته للعالم. على سبيل المثال، إن سرد حكاية تتعلق بالقضاء والقدر لها انعكاسات مختلفة عن سرد حكاية تحفز على حرية الاختيار بإرادة حرة وذاتية.

وفي هذا السياق، يعبر الحكواتي الفلسطيني خالد النعنع، 40 عامًا، والمقيم في لبنان، عن تجربته مع الحكي للأطفال. ويشير بالقول "أشعر بأهمية وجودي كحكواتي حين أرى البسمة في عيون الأطفال ووجوهم". منذ عام 2008 يحكي خالد النعنع للأطفال، ويؤكد على أهمية الحكايات وتأثيراتها التربوية على الأطفال كونها "تترك بصمة عندهم". ويشير إلى أن الحكاية تأخذ الأطفال إلى عالم الأحلام والخيال والمتعة. ويعتبر خالد  أن "أن كل الحكايات فيها رسائل لكن ليس دوري، كحكواتي، تبيان الرسالة للأطفال والمستمعين بشكل مباشر"، ويضيف "حكاياتي لا تهدف لتغيير وعي الناس أو إلزامهم بآراء معينة، وإنما حكاياتي تنقل صورة ليس أكثر".
 

الحكي ومفاعيله النفسية

يقول فرويد "للكلمات قوة سحرية، بإمكان الكلمة أن تحمل أعظم الفرح أو أعظم الخيبات". فالكلمة تنفذ إلى أعمق أعماق النفس البشرية. يكفي أن نستدل كم يعلق البشر أهمية على البوح بكلمة "أحبك" أو كلام الطفل الصغير حين ينطق بأول أحرف أو أسماء والديه. والإنسان المحزون يشكي همه فيحكي أزماته لصديق أو حبيب أو قريب وحين ينتهي يقول "الآن ارتحت" أو "فضفضت يلي بقلبي" لأن الإنسان بحاجة إلى التعبير عن نفسه بالحكي، وبحاجة لمن يستمع إلى حكيه، تمامًا كما يلعب الاعتراف في الكنيسة دوره بتطهير المؤمنين والغفران عن خطاياهم.

انتقلت تجربتي إلى الحكي في المستشفيات وتحديدًا في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت في قسم مرضى السرطان للكبار وبدعم من مبادرة TIES . ويشمل المشروع الحكي داخل غرف المرضى. يدخل الحكواتي بصحبة فريق من الجمعية ويسرد حكايته على مسمع المريض وأهله ويتنقل من غرفة إلى أخرى ويفسح المجال للمريض بسرد حكايته إن أراد ذلك.

كان بعض المرضى يتأثرون بالحكايات وآخرون يبتسمون ويضحكون والبعض الأخر يعلق على تفاصيل الحكاية ويبدي رأيه فيها، فيما يبادر مرضى أخرون بمشاركة حكاياتهم وسرد حدوثة يعرفونها. فالحكاية تلعب أدوارًا مهمة ومفيدة على صعيد التعبير الانفعالي للمرضى وتترك بصمتها في وجدان الجمهور. ينهي الحكواتي حكايته ويرحل لكن حدوثته تحفر عميقًا داخل كل إنسان وتبني عشًا لها في خياله ووجدانه.

أسست يارا أبو حرب، 39 عامًا، مبادرة TIES بالشراكة مع غيدا فضل الله عام 2017. هدفت المبادرة إلى الترفيه والدعم النفسي للمرضى من خلال الفنون. تقول يارا "تأثرنا بسبب فيروس كورونا مما اضطرنا إلى تخفيف برامجنا بغية تقليص الاحتكاك مع المرضى قدر الإمكان"، وتضيف "كانت تجربة تقديم البرامج الفنية للمرضى أونلاين أفضل من التوقف عن العمل والدخول في مرحلة الرتابة". لكن سرعان ما تبين أن المرضى يفضلون البرامج الحضورية لأنها تسمح بالتفاعل والتبادل للأفكار والأحاسيس. كانت تضم برامج المبادرة فقرات الحكواتي الجوال والموسيقى والرسم والأشغال اليدوية وتمارين التنفس. تشير يارا إلى أن "الفقرات الفنية ومنها الحكواتي كان لها مفاعيل إيجابية"، وخاصة إذا ما ارتبطت أهداف البرامج بعنوان المبادرة "الثقة، الإلهام، التشجيع، القوة".

واقع الحكواتيين في لبنان

منذ عام 2014 بدأ نشاط في لبنان لإعادة إحياء مهنة الحكواتي وأخذت المبادرات جمعيات عديدة منها مؤسسة الجنى ومؤسسة التعاون وجمعية السبيل وتم تدريب مجموعة من الحكواتيين من جنسيات لبنانية وسورية وفلسطينية وجنسيات عربية أخرى. وتوالت المهرجانات والحفلات في المقاهي الثقافية والمسارح والمدارس والمكتبات العامة ومخيمات اللاجئين. تولى تدريب الفرق نخبة من الحكواتيين المتمرسين مثل جهاد درويش وشيرين الأنصاري وغيرهم، وانتعشت الفكرة وتقبلها الجمهور في بيروت ولبنان.

لكن الظروف السياسية والاقتصادية وجائحة كورونا أثرت على هذه الجهود وتراجع الزخم منذ عام 2019، فيما ظهرت بعض المبادرات الفردية للحكي عن بعد أو عبر تصوير الحكايات ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. في هذا السياق، يشير المنسق التنفيذي لجمعية السبيل في لبنان، علي صباغ، 44 عامًا، إلى أن "عملنا في جمعية السبيل انطلق من خلال المكتبات العامة وذلك بهدف الحفاظ على التراث الشفهي عبر جمع الحكايات الشعبية وتوثيقها، ومن ثم تدريب الحكواتيين بغية نقل هذه الحكايات شفاهيًا إلى الجمهور".

يشير علي إلى تنفيذ عدة مهرجانات للحكي في لبنان حيث تجولت في المدن اللبنانية عام 2018، وذلك بعد تدريب وبناء قدرات أكثر من 12 حكواتي وحكواتية من الجيل الجديد، وقاموا بتنظيم العروض في المسارح والمقاهي الثقافية والمكتبات العامة. ويتابع علي  بالقول أنه "تمت دعوة حكواتيين عرب مما شكل فرصة للالتقاء والتنسيق سويًا".

ويرى بأن تفاعل الجمهور "كان جميلًا جدًا وأحيانًا كانت تمتلئ المقاعد"، ويضيف "نحن نؤمن بهذا المشروع وندرس تنفيذ مشاريع مستقبلية حين تتوافر الظروف الملائمة". بالنسبة لعلي "الحركة واعدة إذا تضافرت الجهود لإحياء هذا الفن من جديد".

يؤكد علي  أن عملية جمع الحكايات من الناس في المدن والقرى أمر مهم جدًا، لا سيما وأنها حكايات تتناقل من جيل إلى جيل. وكذلك هناك أهمية لعملية نشر وتوثيق هذه الحكايات في الكتب. لكنه يشير إلى أن "واقع القراءة المتراجع يفرض علينا إقامة هذه العروض ونقل هذه الحكايات عبر ألسنة الحكواتيين".

خادم الحكاية

في هذا البودكاست نستمع إلى الحكواتي اللبناني جهاد درويش، من مواليد لبنان عام 1951. يقيم جهاد حاليًا في فرنسا ويجول دول العالم للمشاركة في مهرجانات عربية وعالمية وتدريب حكواتيين. مارس عدة مهن تدور جميعها حول الكتابة والأدب الشفهي.  "أمارس فن الحكاية بشكل محترف منذ العام 1984، وأحكي في جميع الأماكن التي تسمح بذلك: مهرجانات، مسارح، مكتبات عامة، مدارس، جامعات، مراكز ثقافية واجتماعية، سجون، مستشفيات وغيرها"، يقول جهاد.

 


يجيب جهاد درويش في هذا البودكاست على أسئلة حول نشأة الحكواتي وجذوره التاريخية، وعن المقارنة بين الحكواتي في الشرق والغرب وأبرز سمات التشابه والاختلاف بينهما، وعن الدور السياسي الذي يلعبه الحكواتي، ومساهمة الحكاية في السياسة، وعلاقة الحكواتي بالجمهور/الحضور، وواقع هذه المهنة اليوم في العالم العربي.