ما كان بإمكاننا في الماضي في الماضي أن نمحو آثار دمار الحروب والكوارث الطبيعية عن الإرث الثقافي. أما الآن، فلقد أصبح من الممكن استغلال التقنيات الرقمية في سبيل الحفاظ على التراث الثقافي من أجل الأجيال القادمة.
تُرى، ما هو العامل المشترك بين كنيسة المهد في بيت لحم والحي الأثري القديم بفيينا ومجموعة المخطوطات اليدوية بمكتبة بادن العامة؟ إنها تحف وأعمال فنية ومنشآت أثرية فريدة من نوعها شهدت على الحضارة البشرية. قد يطالها الدمار أو تتداعى وتختفي من على وجه الأرض في أي لحظة وإلى الأبد؛ إما جراء التأثيرات البيئية، أو الحروب، أو الكوارث الطبيعية أو حتى التجارة غير المشروعة.
حتى الآن، تمت رقمنة ما بين ٣٠ إلى٥٠ بالمئة من الإرث الثقافي بأوروبا، إلا أن هذه النسبة تنخفض في المواقع والمنشآت والمعالم الأثرية، كالمدن التاريخية ومناطق الحفريات. والمقصود بـ "رقمنة التراث الثقافي" نقل الأعمال الفنية والأثرية إلى العالم الافتراضي، إما بغرض الحفظ أو لأغراض البحث والدراسة. وتتنوع الأدوات الرقمية المستخدمة في هذا الغرض ما بين مخازن معرفية وقواعد بيانات ومحاكيات افتراضية لمعارض بأكملها وعروض ثلاثية الأبعاد لمباني ومنشآت. ومن خلال عملية الرقمنة، يحظى الإرث الثقافي، من أعمال فنية ومعالم أثرية، بحياة أخرى في العالم الافتراضي في حال أن سقط فريسة للدمار.
التوأمات المتحفية الرقمية
في الوقت نفسه تخدم عملية رقمنة الإرث الثقافي أغراضًا أخرى. فإنها تتيح وتيسر إمكانية الوصول للموروثات الثقافية والأعمال الفنية عبر التطبيقات التكنولوجية. لذلك، تسعى العديد من المتاحف في ألمانيا إلى رقمنة مقتنياتها الثقافية على الرغم مما ينطوي عليه الأمر من تحديات تقنية وتوظيفية. فمنذ انطلاق مشروع "Museum4punkt0" التعاوني المشترك في عام ٢٠١٧، كرست مجموعة من المتاحف الألمانية، قرابة الـ ٣٠ متحفًا، جهودها نحو تطبيق الوسائل الرقمية في عملية الوساطة الثقافية. اتجهت المتاحف إلى تطوير واختبار وتقييم سبل استخدام التطبيقات الرقمية للاستعانة بالرقمنة في الشؤون والأنشطة المتحفية اليومية؛ كمن خلال تقنية "digital twin" أو التوأمة الرقمية، على سبيل المثال، والتي تتيح للمستخدم الفرصة للاطلاع أونلاين على معروضات المتاحف في إطار تجربة شبه واقعية.
في إطار تعاون مشترك بين المتحف الجرماني الوطني في نورنبرج، وهو أكبر متحف للتاريخ الثقافي في المنطقة المتحدثة باللغة الألمانية، وشركة أكاميو الناشئة في توبينجن، تم تنظيم جولة افتراضية عبر ستة معارض دائمة: معرض "الآلات الموسيقية" ومعرض "الملابس منذ عام ١٧٠٠" ومعرض "الأثاث والمستلزمات المنزلية الريفية" ومعرض "البيوت الريفية" ومعرض "الفن والتراث البرجوازي في القرن الـ ١٩" و"متحف الفنون الصناعية والتصميم". وذلك لأنه سيتم تفكيك هذه المعارض وغلق هذا الجناح تمامًا لعدة أعوام لأغراض الترميم والتجديد ثم إعادة افتتاحها بمفهوم جديد. لكنها ستبقى مفتوحة للزائرين عبر الجولات الافتراضية، حتى لو لم تعد قائمة كقاعات متحفية على أرض الواقع.
يقول المؤرخ الفني ورئيس مجلس إدارة شركة أكاميو، فرانك دورّ: "توفر تقنية التوأمة الرقمية للمتاحف ذات التوجهات المستقبلية إمكانيات بسيطة ومتطورة لإتاحة جولات افتراضية عبر منشآتها ومواقعها المثيرة للاهتمام من خلال تقنيات الويب ثلاثي الأبعاد والواقع الافتراضي والواقع المعزز. استندت تقنية التوأمة الرقمية إلى تقنيات المسح والاستشعار الضوئي، "LiDar"، والواجهات والوسائط في وضع حجر أساس مدهش لأعمال الجمع الوصائي والتجارب المنسقة والتوسع رفيع المستوى للواقع الممتد.
لنحلق في السماء مع أوتو ليلينتال
وللمتحف الألماني بميونخ، وهو أحد أكبر المتاحف العلمية والتقنية في العالم، توأم رقمي أيضًا. ويشرح لنا ماكسيميليان رايمانّ، أحد المؤرخين العلميين بفريق المتحف الألماني الرقمي، عملية إنشاء هذا النموذج الافتراضي قائلًا: "قمنا بعمل مسح ثلاثي الأبعاد للمتحف باستخدام تقنية ليزر وتصويره في الوقت نفسه بعدة كاميرات بانورامية. وفي النهاية تم دمج كل هذه البيانات على الحاسوب لإنشاء نموذج افتراضي ثلاثي الأبعاد للمتحف الألماني على أعلى مستوى من الدقة." ويستطرد قائلًا: "لا يزال بالإمكان رؤية صور للمتحف التاريخي الألماني قبل التحديث، وبعض من أبرز معارضه، كمعرض المنجم، بالرغم من إغلاق عدد كبير من قاعاته."
ويمكن للزوار ارتداء النظارات الافتراضية في المختبر الافتراضي للمتحف الألماني ومشاهدة معروضات المتحف في إطار تجربة شبه واقعية. "كيف يعمل محرك البخار ذو الصمام الدقيق الذي اخترعه الأخوان زولتسر؟ كيف أقلع أوتو ليلينتال بطائرته الشراعية التي تحمل اسمه "ليلينتال" من فوق هضبة فليجيبرج؟ يمكن للزوار مساعدة بيرتا بينز في تركيب سيارتها الحاصلة على براءة اختراع، أو استكشاف سطح القمر بجهاز المحاكاة، "مركبة القمر".
بالإضافة إلى ذلك، تكمن أهمية رقمنة الإرث الثقافي أيضًا في إتاحة البيانات بشكل أفضل. وتم الربط رقميًا بين مقتنيات المتحف الألماني الرقمي، من معروضات وأرشيف ومكتبة، على موقعه الإلكتروني لتسليط الضوء على علاقة المعروضات وأقسام المتحف ببعضها البعض. بالإضافة إلى ذلك، يتم إتاحة مقتنيات المتحف الألماني على شبكة الإنترنت للباحثين والمهتمين من جميع أنحاء العالم.
ويرى رايمان أن من أبرز مميزات رقمنة المتاحف هي تمكين العاجزين عن زيارة المتحف على أرض الواقع من الوصول إليه والاطلاع على مقتنياته. ويؤكد أن النسخة الرقمية متوفرة باللغة الإنجليزية للزوار من خارج ألمانيا ومعدة خصيصًا للعمل بسلاسة على الهواتف الذكية، وأن الجزء الأكبر من الصور والبيانات الوصفية خاضع لترخيص مفتوح، وبالتالي يمكن إعادة استخدامها وفقًا لهذه الشروط دون عناء. كما يمكن البحث عن البيانات والمزج بينها وتبادلها بفضل خاصية المعايير المفتوحة المصدر، وبالتالي إتاحتها للجمهور من الباحثين والمهتمين في جميع أنحاء العالم.
متاحف فوق السحابة الافتراضية
إن مشروعات المتحف الجرماني الوطني في نورنبرج والمتحف الألماني بميونخ ما هي إلا أمثلة واقعية على تحقيق أغراض وأهداف مختلفة من خلال عملية رقمنة الإرث الثقافي، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: الوساطة الثقافية وتحليل البيانات والتبال المعرفي. ويُسمى هذا النوع من الإستراتيجيات بـ "التجارب الشاملة"، والتي تعمل على توحيد كل الأطراف المعنية في تجربة رقمية مشتركة. ويرى فرانك دورّ من شركة أكاميو أن هذا هو سبيل الوصول للمستقبل ويشدد على أنه قد آن الأوان لتنفيذ مشروعات الرقمنة فقط باستخدام إستراتيجية "التجربة الشاملة"، مما سيضمن استغلال الميزانيات في حلول مترابطة ومستدامة، واستخدام البيانات على نحو تعاوني وعلمي، وإدرار الإيرادات وتعزيز التجارب وهدم الحواجز.
بالإضافة إلى ذلك، يتَّبع الاتحاد الأوروبي مثل هذا النوع من الإستراتيجيات القائمة على أغراض متعددة؛ حيث يعمل في الوقت الراهن على إنشاء سحابة متحفية رقمية بعنوان "السحابة الأوروبية التعاونية للإرث الثقافي" (ECCCH)، من شأنها أن تتيح فرصة التعاون المتعدد التخصصات بين خبراء التراث الثقافي في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وتوفر لهم الأدوات الرقمية الحديثة اللازمة. ولكن هذه السحابة لا تهدف فقط إلى البحث والأرشفة، بل يُفتَرَض بها أن تساعد في الوقت نفسه على القضاء على التجارة غير المشروعة بالموروثات الثقافية المهددة وعلى تيسير الوصول إلى التراث الثقافي وتعزيز السياحة الثقافية. تقول ماريا جابرييل، المفوضة الأوروبية للابتكار والبحث والثقافة والتعليم: "إن هذه المبادرة الأوروبية ستعمل على تيسير التعاون بين الباحثين ومنسقي وخبراء المتاحف في سبيل حماية إرثنا الثقافي وإتاحة الوصول بسهولة ويسر إلى المحتويات الثقافية وتمكين الأجيال القادمة من الاستمتاع بها." وتؤكد أن هذه "السحابة" من شأنها أن تمنح المتاحف والمؤسسات الثقافية الأصغر حجمًا فرصًا وإمكانيات جديدة للمضي قدمًا في طريق الرقمنة والعمل على مشروع مشترك في بيئة آمنة واحترافية.
بيتر بلاسماير، مدير صالون الرياضيات والفيزياء بدريسدن، هو أحد الخبراء المختصين بسحابة ECCCH الأوروبية، ويشيد بدور المتاحف والمعارض والمكتبات في عرض وحماية ودراسة التراث الثقافي الأوروبي: "إن هذه المؤسسات لم تكتفي فقط بحمل الهوية الأوروبية، بل شهدت أيضًا على قدرة التراث الثقافي على الصمود والتكيف، وهو ما ساعد الأوروبيين على اجتياز العديد من الفترات العصيبة." ويؤكد بلاسماير على أنه لا يجوز لها أن تأتي في المرتبة الثانية، لا سيما في الفترات التي ارتسمت ملامحها بالحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية.
درست بيترا شونهوفِر العلوم المسرحية في مدينة ماينز والصحافة الثقافية في مدينة ميونخ. وبعدما اكتسبت بعض الخبرة كمساعدة مخرج، احترفت مهنة الصحافة من خلال عملها في مختلف الصحف اليومية، بدءًا من ماينزر راين تسايتونج ووصولًا إلى زوددويتشه تسايتونج. وفي عام ٢٠٠٩ أسست شونهوفر مكتب تحرير خاص بها وركزت جهودها منذ ذلك الحين على تناول الموضوعات الثقافية وتلك ذات الصلة بحماية البيئة والسفر والعوالم الرقمية. تعيش بيترا حاليا على جزيرة يوسدوم حيث تستبدل مكتبها أحيانًا بكرسي الشاطئ.
٢٠٢٣ يونيو