النقاش ليس بغريب: ما الذي ينبغي أن يحدث للنصب التذكارية التي تصوّر أشخاصًا قمعوا الآخرين، كمالكي العبيد والمستعمرين؟ هل ينبغي هدمها أو الإبقاء عليها؟ لدى ريني ك. هاريسون، الأستاذة المساعدة في التاريخ الديني الأمريكي والأفرو-أمريكي في جامعة هوارد، بعض الأجوبة والأفكار – غير أنها تطرح بعض التساؤلات أيضًا: لماذا لا يوجد نصب تذكاري لجميع الناس الذين اكتووا بأتون الرق؟
كان من المفترض أن تشاركي (لكن تعذر عليك ذلك لأسباب تتعلق بالسفر) في منتدى "أعيدوا التفكير والشحن – نصب تذكارية في ديمقراطيات القرن الحادي والعشرين بين تحطيم الأيقونات والنهضة"، والذي لم يُعن فقط بمطالبة الجماعات المهمّشة بالظهور في الأماكن العامة عبر النصب التذكارية، والتماثيل، والمعالم التذكارية، بل عُني أيضًا بسقوط بعض النصب التذكارية. ما رأيك بهذا الموضوع؟دائمًا ما اُسأل هذا السؤال: هل ينبغي أن تُزال النصب التذكارية الإشكالية أو التي لا تدفع نحو مجتمع ديمقراطي، أو تُحطّم، أو ينبغي المحافظة عليها؟ هل نبقي عليها او نزيلها؟ لطالما ترددت في الإجابة على ذلك لأنني أنتمي إلى معسكرين في هذا الصدد. شخصيًا، أعتقد أن الأمر يعتمد على الظرف. هل تستدعي الحالة قيد النظر إزالتها أو الإبقاء عليها؟ هل يُشكل وجود نصب تذكاري ما إساءة إلى جماعة في زمان أو مكان معينين في التاريخ؟ وما هو الثمن؟ وعندما أقول الثمن، لا أعني بذلك الثمن المالي؛ بل أعني الثمن الروحي، الوزن والعبء المُلقى على عاتق مجتمع معين، والثمن الروحي للأفراد، وللمجتمعات، ولأمة ما على مر الزمن. أعتقد أن إزالة نصب تذكاري أو الإبقاء عليه يعود للمجتمع المعني بالأمر.
إذا فكرت في ذلك كمؤرخة، أقول إنه ينبغي أن تبقى. فنحن عادة ما نتكلم عن الذاكرة في سياق النظر إلى الخلف واستحضار ما كان مخفيًا، أو موضع إساءة، أو لم يُحك عنه، أو ما حُكي عنه مع حذف متعمّد لأجزاء معينة من القصة. عندما نشارك في سرد القصص التي تم إغفالها أثناء حذف قصص معقود لها السيادة والهيمنة، فإننا نبقى نفتقد القصة المحكية. وأنا كمؤرخة أقترح أننا بحاجة إليها جميعًا. فكل تلك القصص جزء من ذاكرتنا الثقافية. لذا، فالنصب التذكارية المسيئة تتسبب في بناء المجتمعات على أساس السيادة، والإساءة، والكراهية: ينبغي أن تبقى هذه النصب التذكارية لأنه ينبغي علينا أن نروي تلك القصة. علينا أن نتذكر الفظائع البشرية التي حدثت. كذلك، علينا أن نجلب قصص الأشخاص الذين تمت الإساءة إليهم إلى الواجهة. يجب أن تأتي هذه القصص، والقصة الأمريكية بقضها وقضيضها، إلى الواجهة بحيث يكون لدينا قصة أكثر اكتمالاً. بهذا المعنى، عندما أنظر إلى نصب تذكاري لشخص أو حدث معين، فأنا أنظر إلى القصة الأمريكية بكامل أبعادها.
ما هو وطني بالنسبة لمجموعة معينة يمكن أن يكون فخرًا وحماية ثقافية، ولكن إساءة بشرية وإقصاءً لمجموعة أخرى.
نعم، وأعتقد أن ما قامت به المجتمعات ما هو إلا رواية القصة الوطنية من النسخة التي قصّها أولئك الذين قاموا بتعريف الوطنية، وتلك هي المشكلة: يمكن أن تكون الوطنية بالنسبة لمجموعة معينة فخرًا وحماية ثقافية، ولكن إساءة بشرية وإقصاء لمجموعة أخرى. لذا، نحن نحتاج إلى قصة النصب التذكاري بكامل أبعادها. السياق الكامل لتلك القصة وقد وضع على مذبح ذلك النصب التذكاري.
ما المشكلة إذًا في طريقة التعامل معها حاليًا؟ قلت إن السياق مطلوب، فكيف ينبغي التعامل مع موضوع ثقافة الذاكرة، خاصة عنما يتعلق الأمر بتاريخ السود؟ هل ينبغي أن تتضمن عدداً أكبر من الناس؟
أعتقد أنه ينبغي على المزيد من الناس، ممن يتبعون لجميع المعسكرات، أولئك الذين يريدون أن يحافظوا على نصب تذكاري ما بسبب ماضيه الوطني والبطولي، أن يتحاوروا مع من يريد هدم ذات النصب التذكاري بسبب تاريخه العنصري والإمبريالي. كذلك يجب أن يشمل النقاش من هم في المنتصف. ثم، ما الذي قد يحدث، اكتشفت في تدريسي أنه عندما يحدث ذلك، يتم تفصيل قصة النصب التذكاري وإظهار فوارقها بشكل أكبر لأننا نستمع إلى روايات متنوعة ومختلفة للقصة، وجميع تلك الروايات صحيحة. الآن لديك قصة أكمل. لا أعتقد أنه ينبغي أن تُروى قصة معينة من قبل شخص أو مجموعة أو منظور ثقافي واحد. خُذ على سبيل المثال المنتدى الأخير في برلين، هناك عدة أشخاص يروون القصة، لذا فإنك تحتاج إلى جميع المشاركين في آن واحد، في تدافعهم مع بعضهم، للحصول على القصة الكاملة. وعلى أمل، في خضمّ تلك المماحكة البشرية أن نشرع في القول عندئذ: "تحتاج طريقتي في النظر إلى التاريخ إلى إعادة دراسة وإلى تموضع جديد في السياق لأنني أسمع الآن أصواتًا أخرى تنبري للحديث".
قلت إن العديد من الناس يتكلمون عن الموضوع أصلاً. إذاً، من يتحدث الآن عن ثقافة الذاكرة؟ هل هي مجرد مادة أكاديمية أم على العامة أن تُشارك في النقاش وعملية صنع القرار؟ ما مدى شمولية العملية؟
لا أعلم إن كانت شاملة إلى ذلك الحد، ولا يمكنني التحدث بالنيابة عن الجميع لأنني لا أعلم ما الذي يحدث في شتى البلدان والمناطق. أعلم أنني جزء من مجموعة تتكلم عن الموضوع – مجموعة أشخاص من الفئات العادية الكنسية والدينية، والناشطين الاجتماعيين، والفنانين، وأشخاص من عامة الناس، وأكاديميين، ومختصين، وعلماء، وسياسيين تشارك في هذا النقاش. الآن، ما إذا كان باستطاعتنا إحداث تغيير ملحوظ، وما يدلل عليه مجموعنا هو أنه يمكننا خوض نقاش. لذا، فالإجابة على سؤالك صعب لأنه يعتمد على ما إذا كانت مجموعة معينة تريد العمل كائتلاف واسع للدفع بالمحادثات عن النصب التذكارية وعن ثقافة الذاكرة إلى الأمام. ما أراه حالياً هو أن ذلك يحدث في العالم الأكاديمي، ويحاول العالم الأكاديمي الوصول إلى مختلف فئات المجتمع. هذه هي الطريقة التي انخرطت بموجبها في النقاش. قمت بكتابة كتاب، وأثناء الكتابة، شغّلت أشخاصًا منخرطين أصلاً بالعمل.
برأيك ومن خبرتك الخاصة، ما هي الفوارق بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية بخصوص ثقافة الذاكرة؟
عندما وصلت إلى واشنطن العاصمة سنة 2010، جبت المدينة سيرًا على الأقدام عدة مرات مع ابن زميل لي. وذات مرة، ذهبنا إلى متحف الهولوكوست في المول الوطني؛ حيث كانت وقفتنا الأولى. عندما وصلت إلى نهاية الجولة، رأيت المعرض الأخير: الأحذية. الأحذية حبست أنفاسي. وهذا ما ينبغي على النصب التذكارية فعله. أذهلني النصب التذكاري: ولم أستطع المغادرة لأنني ظللت أفكر، "كان هناك أشخاص يرتدون هذه الأحذية عندما دخلوا الغرف". غادرنا وتمشينا في أرجاء المول، وبدأت أنظر، كما لو أنني أرى جميع النصب التذكارية لهؤلاء الرجال العظماء البيض. وسألت نفسي: "أين النصب التذكاري لمن بنوا المدينة؟" " أين النصب التذكاري، وحماية، والاعتراف بدمهم، وعرقهم، ودموعهم؛ وجهدهم، بإبداعهم ومواهبهم؟". إني أرى الفظائع التي حدثت في متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة. أراها في الأحذية. لكن ليس هناك شيء في المول الوطني عن فظائع العبودية الأمريكية. يسألني ابن زميلي، "لماذا لا تكتبين عنها؟" وفي تلك اللحظة بدأ السعي لكتابة كتاب "الأيادي السوداء، البيت الأبيض: عمالة الرقيق وصنع أمريكا".
وهذا ما وصلت إليه في الإجابة عن سؤالك؛ الفرق بين الدول الأوروبية ومدنها الوطنية هو بعض من اعترافها وتخليدها للماضي عبر طرق افتقدتها المدينة الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية. لم يعترف صانعو القرار في عاصمة الدولة بجهود الناس السود والفظائع المرتكبة ضدهم، ولم يجسدوا ذلك في نصب تذكاري كنوع من الذاكرة الثقافية. استمرت العبودية في الولايات المتحدة لما يربو عن مئتين وخمسين عامًا، ولا وجود هناك لأي تمثال في المول الوطني. الآن يُشيّد متحف، ولكن ليس نصبًا تذكاريًا بكل وضوح تكريمًا لمن لعبوا دورًا في بناء هذه البلاد والذين تم احتجازهم رغماً عنهم. لا شيء. تلك الرحلة بالذات إلى متحف الهولوكوست هي التي قادتني إلى متحف الهولوكوست في برلين. أعرف أن النصب التذكاري لليهود الذين سفكت دماؤهم ليس هو الحل. لكن، الواضح هو أنه عندما انتقلت من الأحذية في الولايات المتحدة إلى البنايات الإسمنتية الضخمة ذات اللون الرمادي القائم في برلين، قلت لنفسي، "هوذا أفراد مجتمع، ها هم باحثون، ها هم ناشطون، ها هم أصحاب أموال، والحكومة يشاركون في ذلك المسعى لقص حكاية ماضيها. إذًا هذا يعني أن أوروبا، وألمانيا، وبتحديد أكبر، بقدر ما، تتعامل بإزاء ذلك بطريقة مغايرة لما تفعله الولايات المتحدة. عندما أطرح القضية، أنظر إلى ألمانيا، أنا لا أقول إنها مثالية، لكنها موجودة. وعندما أنظر إلى البلدان الثماني الأخرى الضليعة بتجارة الرقيق، فقط من يشيدون النصب التذكارية عن العبودية يفعلون ذلك عن قصد، وهي شهادة على مدى تقديسهم للذاكرة الثقافية.
قلت إن بعض النصب التذكارية متأثرة بشدة بالوطنية وبكيفية تعريف الناس للوطنية. من برأيك يعرّف الوطنية. وهل تعتقد بأن ذلك يؤثر على كيفية تشييد التماثيل والنصب التذكارية في الولايات المتحدة؟
نعم، كذلك أعتقد بأن تعريفها يتم أيضاً من خلال هيمنة البيض ووطنية البيض. الفكرة هي أنه يُنظر للعرق الأبيض على أنه التعاظم التدريجي للوجود الإنساني. أولئك الذين يدّعون هذا النوع من السيادة والاستحقاق، إنما يفعلون ذلك للترويج لنظرتهم إلى أنفسهم وقصتهم الثقافية بإقصائهم لآخرين. فمن ناحية، هم يقولون للمجتمع، "لماذا ينبغي علينا أن نرفع من مرتبة من نعتبرهم أقل شأناً؟ لماذا ينبغي علينا تكريس تمثال لهم؟ ذلك لأن التماثيل تنطوي على الإجلال، أليس كذلك؟ أنت تقيم نصبًا تذكاريًا لأنك تبجّل شخصًا أو مجموعة فعلوا شيئًا للدفع بقضيتك، أو شاركوا في شيء ما، تعتبره أنت أنه خيّر ووطني لإثراء الأمة. في بعض الحالات، أعتقد أن الوطنية بصيغتها الأولى كانت تُعرّف بأن تكون أبيض، وقوميًا، وبأنها طريقة خاصة لأن تكون أمريكيًا. لذلك اندلعت الثورة الأمريكية. إذًا، كانت هناك حاجة لرسم طريق أو هوية مختلفة بمعزل عن أي شيء خارج عمّا تم تعريفه وبدا على أنه أبيض وقومي بامتياز.
النصب التذكارية تُبنى على أساس الوطنية والقومية البيضاء والمسيحية والسلطة الأبوية.
تاريخيًا، بُنيت النصب التذكارية على أساس الوطنية والقومية البيضاء والمسيحية والسلطة الأبوية. هذا هو جوهرها. تعلم ذلك لأنك عندما تتجول في المول الوطني في واشنطن العاصمة، فإن هذا ما تراه. مقامات بيضاء مسيحية لذكور. بالإضافة إلى رجال يتحلّون بالبسالة ممن ذهبوا إلى الحرب ويُعتبرون مفكرين عظماء في زمنهم. لذا، وإلى حد ما، فالتحدي هو لأي أحد معني بالذاكرة الثقافية للانخراط في مشروع نسوي للذاكرة الثقافية لأنها لا تعني فقط إضافة امرأة أو شخص مسيحي ملوّن إلى الرواية؛ بل تعني أيضًا نقد رواية تتعمّد إقصاء جماعات معينة – وتروّج لإيديولوجية معينة لما يعنيه أن تكون أمريكيًا ولفكرة أن تكون أمريكيًا يعني أن تكون أبيض وذكرًا وأنجلوسكسونيًا ومسيحيًا من طائفة البروتستانت، يحارب في سبيل الحفاظ على الذات. وهذا يعني بأن المهمة الملقاة على عاتقنا والمتعلقة بعمل الذاكرة الثقافية وتشييد النصب التذكارية لا تتضمن استبدال شيء ما بشي آخر بل توسيع نطاقه؛ وقول القصة كاملة. يجب أن تكون مشروعًا نسويًا مشتركًا بين الأديان، لأنه إن لم يكن كذلك، فإننا حينها نقوم فقط باستبدال ذات الأفكار بأناس آخرين.
إذاً، ومع ذلك، ماذا يعني الآن أن نتحدث عن ذلك بشكل أعمّ؟ بالنسبة لي، يعني ذلك النقد، وهو عمل نسوي، للنظام القائم وإعادة ترتيبه وإعادة النظر فيه بحيث يصبح أكثر تمثيلاً للخير العام.
٢٠٢٣ أغسطس