رمضانيات  3 د مجتمع واحد: كيف يحتضن المسيحيون المصريون رمضان

 فوانيس من إعادة التدوير تصنعها عائلة اندرو إبراهيم كهدايا للمسلمين
فوانيس من إعادة التدوير تصنعها عائلة اندرو إبراهيم كهدايا للمسلمين. © نادية مبروك

"الدين لله.. والوطن للجميع". هذه العبارة التي قالها الزعيم السياسي المصري سعد زغلول قبل قرن من الزمن، إلا أن هذه الجملة تبدو ناقصة، ففي مصر رمضان أيضا للجميع، فهذا مسيحي يقيم مائدة لإفطار الصائمين، وذلك مسيحي يتقمص شخصية المسحراتي للاحتفال بشهر رمضان، وهنا مسيحي يقوم بتعليم الأطفال المسيحيين عن الشهر المعظم لدى أقرانهم المسلمين.

في حي شبرا بالعاصمة المصرية القاهرة، قبل نحو 35 عامًا كان العمال في المحلات المجاورة لمحل جميل فوزي تادرس بأحد الشوارع الجانبية مجتمعين لتناول طعام الإفطار سويًا، قبل أن يشاركهم تادرس، لتبدأ منذ هذه اللحظة فكرة "مائدة الوحدة الوطنية" في ذهن تادرس، ويترجمها في مائدة إفطار كل عام يشارك فيها هو وأصدقائه المسلمين والمسيحيين من أهل المنطقة.

"المائدة هي ترجمة لمقولة رمضان كريم التي لم أكن أشعر بها في صغري، فكرم رمضان يستفيد منه المحتاجين الذين يحصلون على المعونات في هذا الشهر، ولا يفرق هذا بين المسلمين والمسيحيين لأن شبرا لا تعرف هذه التفرقة، فمنذ الصغر كان لي أصدقائي المسلمين دون الاهتمام بالديانة، نحتفل سويًا بالأعياد سواء تخص المسلمين أو المسيحيين، وكما نحرص كمسيحيين على عدم الأكل والشرب في نهار رمضان، فأن هناك مسلمين يحرصون على الالتزام ببعض أيام الصوم المسيحي مثل صيام السيدة العذراء التي كانت تحرص صديقة أمي المسلمة على مشاركتها فيه" يقول جميل.

وأضاف تادرس المائدة استمرت خلال الـ 35 عام، نشارك فيها كل عام سواء بالطعام المطبوخ خصيصًا للمائدة أو الوجبات الجاهزة التي يتم شراؤها حسب المتاح، ويشارك فيها معي أصدقاء مسلمين ومسيحيين، ونحرص كل عام على دعوة أحد أعضاء البرلمان للتأكيد على الروح الوطنية التي تسود حي شبرا.

شبرا حي مميز

بحسب كتاب "شبرا.. اسكندرية صغيرة في القاهرة" لـ أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة د.محمد عفيفي، فأن حي شبرا أنشأه محمد علي عام 1809 بشق الشارع الرئيسي المعروف باسم شارع شبرا، وأنشأ في نهايته كلية الزراعة وقصر محمد علي، لتصبح شبرا هيالضاحية الريفية لأسرة محمد علي.

وأضاف عفيفي في كتابه، أن البطريركية المرقسية القديمة كانت بمنطقة الفجالة في الأزبكية قبل نقلها لحي العباسية في الستينيات، وبحسب العادة التي تجعل المسيحيين يتمركزون في مناطق دور العبادة، فقد تكون بجوار البطريركية ما يعرف بـ "حي النصاري"، ومثل حي شبرا امتداد طبيعي لهذا الحي، لاسيما مع الاحتلال الانجليزي، ووجود العديد من الجاليات الأجنبية التي فضلت أن تسكن بالقرب من "حي النصاري" لسهولة الوصول للكنائس.

في حي شبرا أيضا، ولكن بمنطقة شارع "الترعة" الموازي لشارع شبرا، يوجد جميل آخر، هو المحاسب جميل بنايوتي المسيحي المشرف على مائدة رمضانية أخرى مستمرة مذ 40 عامًا.

يقول بنايوتي "قبل أكثر من 40 عام، استأذن عدد من رجال الأعمال الموجودين بالمنطقة على إقامة مائدة رحمن في أرض فضاء مملوكة لي، وأذنت لهم، وبعد عدة أعوام، انسحب رجال الأعمال من المائدة تاركين مسئوليتها على ضابط شرطة كان شريك لهم في المائدة، فقررنا مشاركته وعدم ترك المسئولية عليه وحده". في البداية كان طعام المائدة تقوم النساء في المنطقة بطهي الأصناف المطلوبة للمائدة في منازلهم، ومع الوقت بدأت المائدة في التوسع، فتم تأسيس مطبخ كامل للمائدة في منزل جميل، وامتد هذا التقليد بين أبناء وأحفاد القائمين على المائدة خلال أربع عقود، كمدرسة لتعليم الأبناء الوحدة الوطنية دون شعارات، ومع انتشار فيروس كوفيد 19، وحظر السلطات إقامة موائد الرحمن، اشتري بنايوتي عدد من "عواميد الطعام" وهي أوعية طعام تركب فوق بعضها فيما يشبه العمود، حيث يوزعها في أول كل شهر على المستفيدين من المائدة بموجب بطاقات الهوية، وتجمع في نهاية الشهر، ويأتي المستفيد قبل الإفطار بساعتين يحصل على طعام يكفي أفراد أسرته بالكامل، بالإضافة إلى كيس لـ السلطات وكيس أخر للمشروبات الرمضانية.

بحسب بنايوتي فأن شهر رمضان ارتبط معه بحرب أكتوبر، حيث كانت خدمته العسكرية كضابط في الجيش الثالث الذي تم محاصرته في شهر رمضان في وسط سيناء، وصيامه مع جنوده وسط الحرب، وهو ما علمه أن لا فرق بينه وبين المسلم في الوطن الذي شاركوا سويًا في الدفاع عنه، لذلك لا يجرؤ أي شخص على سؤاله لماذا يشارك في المائدة ويشرف عليها وهو مسيحي؟ مشيرًا إلى أن هناك مسيحيين مستفيدين من المائدة.

لا يوجد حصر رسمي لأعداد الأقباط في مصر، فأخر إحصاء رسمي لهم صدر قبل 13 عام من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2012، وهو ما قدر أعداد الأقباط بنحو 5 مليون قبطى، بينما قال البابا تواضروس بابا الإسكندرية عام 2023 أن أعداد الأقباط في الداخل نحو 15 مليون قبطي و2 مليون بالخارج.

الإسكندرية

في الإسكندرية قبل 15 عامًا كان أندرو إبراهيم ابن مدينة الأسكندرية يشاهد والده وهو يعد حقائب رمضان، وهي حقائب تتضمن مساعدات غذائية لتوزيعها في رمضان، بينما تقوم والدته بعمل مشغولات يدوية رمضانية لتوزيعها على أصدقائها المسلمين احتفالًا بالشهر الكريم، وهو ما جعله يفكر في مشاركتهم بطريقته الخاصة، فتقمص دور المسحراتي حيث يقوم بتوزيع الهدايا التي تنفذها والدته من إعادة التدوير.

يقول أندرو "أشعر بالفرحة وأنا أقوم بأداء دور المسحراتي، وأرى ردود الأفعال السعيدة على ما يفعله، وعلى الهدايا التي يقوم بتوزيعها، وهي فرحة لا يستطيع وصفها، مشيرًا إلى أن الكنيسة تشجعه على قيامه بدور المسحراتي، ومعروف في الكنيسة بالمسحراتي وبابا نويل، حيث يقوم بتقمص دور بابا نويل في أعياد الكريسماس أيضا."

بحسب رانيا نسيم والدة أندرو فهي تنظم احتفال سنوي بشهر رمضان، توزع فيه الهدايا على أصدقائها، وتناول طعام الإفطار سويًا، وهو ما يشارك فيه اندرو سواء بتجهيز الهدايا أو توزيعها أثناء تقمصه دور المسحراتي، مشيرة إلى أنها تقوم بشراء بواقي الأقمشة لإعادة تدويرها لإعداد 400 هدية لتوزيعها سنويًا. وتصف سحر جمعة صديقة والدة أندرو العام الأول الذي قام فيه أندرو بأداء دور المسحراتي، حيث كانت مع ابنتها في المنزل لسفر زوجها، وفوجئت بـ أندرو ينادي على ابنتها على أنغام الطبلة التي يحملها، وحين خرجت له أعطى لها فانوس هدية، واصفة شعورها حينها بأنه لا يوصف.

من الإسكندرية إلى المنيا

يعتبر أستاذ علم الاجتماع السياسي د. سعيد صادق، هذه المبادرات بأنها تمثيل لروح احتفالات رمضان، التي تشبه روح احتفالات الكريسماس في الغرب، حيث يشارك الجميع في الاحتفال بالشهر، لاسيما مع الاختلاط بين المسلمين والمسيحيين في العمل والجامعات وكل مناحي الحياة، لكنه أضاف: "رغم أن كل المبادرات المسيحية في رمضان هي مبادرات محمودة، لكنها تمثل في النهاية سلوك الأقلية الخائفة التي تستخدمها في الدفاع عن نفسها، لذلك تجدها شحيحة على الجانب الأخر."

في الجنوب حيث محافظة المنيا، وهي المحافظة الأكثر كثافة للأقباط، حيث تضم نحو 2 مليون قبطي بحسب تصريحات الأنبا مكاريوس أسقف المنيا، وأعلى المحافظات من حيث عدد حوادث الفتنة الطائفية، بحسب خريطة الحريات الدينية في مصر الصادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فشهدت في الفترة من 2016 حتى عام 2023 نحو 56 حادث عنف طائفي واستهداف على أساس الهوية الدينية.

التوتر الطائفي في المنيا خلق حالة فريدة من القري القبطية التي لا يسكنها سوى المسيحيين، ومنها قرية دير جبل الطير، وهي قرية كانت تضم دير مسيحي قبل ما يزيد عن ألف عام، وكان سكانها من الرهبان فقط، قبل أن تجتذب العديد من الاقباط العلمانيين- لا ينتمون للسلك الكهنوتي- وتنهي الرهبنة من القرية، وفي هذه القرية نشأ الشاب شنودة عادل الذي أسس مكتبة الصخرة كمركز ثقافي يخدم القرى التي تعاني من الحرمان الثقافي بسبب المركزية.
أطفال الصخرة بدير جبل الطير مع شنودة عادل.

أطفال الصخرة بدير جبل الطير مع شنودة عادل، المنيا، مصر. | ©خاص

بحسب شنودة ففي طفولته لم يعرف الكثير عن شهر رمضان، سوى أنه يجب عليه عدم تناول الطعام أمام المدرسين المسلمين حتى لا يتعرض لغضبهم، ووجود برنامج خاص في التليفزيون خلال هذا الشهر، لكن لم تكن القرية تشهد أي مظاهر للاحتفال لاسيما مع التوترات الطائفية التي تشهدها المحافظة، وظل على هذا الوضع حتى خرج من القرية في المدرسة الثانوية ثم الجامعة، حيث التقى للمرة الأولي بأصدقاء مسلمين أو مسيحيين من طوائف أخرى.

لكونه مسيحي يقدم خدمات مركزه في قرى مسيحية، حاول شنودة التنصل من أي مظاهر دينية داخل المركز، لاسيما مع تقديم نشاطه في قرى أخرى مسلمة، وفي أحد المرات قدم ورشة للأطفال المسيحيين حول شهر رمضان، ولفت نظره أن أطفال قريته لا يعرفون الكثير حول شهر رمضان، فقرر تقديم ورش فنية عن شهر رمضان، تبدأ بالرسم والتلوين لرموز من التراث والفلكلور الرمضاني، يتم بعدها اختيار لوحة للحديث عن ما تحتويه من رسوم سواء كانت شخصية رمضانية أو رمز مثل الفانوس أو حتى المأكولات الرمضانية، وتشمل الورشة أيضا مشاهدة أفلام وثائقية عن الشهر الكريم.

بحسب دراسة للباحثة نرمين عازر صادرة عن مركز الأقصر للدراسات والحوار والتنمية، فإن المسيحيين والمسلمين يتشاركون كافة تقاليد وعادات شهر رمضان، من التجمعات العائلية، وتشارك العائلات المسيحية جيرانهم المسلمين في أعمال الخبز والحلويات الرمضانية وغيرها، مشددة على أن الكنيسة القبطية تصدر تعليمات للأقباط بضرورة مراعاة مشاعر المسلمين في شهر رمضان.

تم نشر هذه المقالة بالتعاون مع منصة إيجاب.