إن كانوا يقولون عن الشباب من غير ذوي الأصول المهاجرة، أنه ينأى بنفسه عن الأعراف والتقاليد القديمة ويسعى للتحرر منها والتمرد عليها، فأليس من الأحرى أن يكون هذا هو حال الشباب ذوي الهويات الهجينة؟ هؤلاء الشباب الذين جاء آبائهم من مناطق بعيدة من العالم ولكنهم وُلِدوا وترعرعوا في أوروبا، مثلي أنا.
فلقد وُلِد أبي وأمي في فلسطين. ولكنّ أبي جاء في نهاية الستينيات للدراسة في ألمانيا، وكان يبلغ من العمر آنذاك ١٩ عامًا. ثم لحقت به أمي فيما بعد. ينتمي أبي وأمي لنفس المكان. وأنتمي أنا للجيل الثاني من فرع العائلة الذي يجمع بين الهوية العربية والألمانية، بل وتسنى لي أيضًا أن أضع اللبنة الأولى للجيل الثالث بإنجابي طفل يبلغ من العمر الآن سنة واحدة تقريبًا.مازلت أتذكَّر أننا شاركنا ذات مرة في حلقة نقاش ببريمن. كنَّا مجموعة من الشباب الألمان ذوي الأصول العربية وكان هناك رجل مصري أكبر سنًا يجلس في المنتصف. ورغم صغر سني، إلا أنني أتذكَّر جيدًا ما قالته إحدى الفتيات لهذا الرجل. فلقد أخبرته أن اختيار شريك الحياة من وطن الآباء لم يعد ملائمًا. لازلت أتذكَّر تعابير الذهول التي ارتسمت على وجه هذا الرجل، وأن هزة رأسه لم تؤثر فينا كثيرًا.
لقد كنَّا حينها في خضم صراع بين الأجيال اصطبغ بتاريخ أسرنا وتوقعاتها ومخاوفها وخبراتها. لأن العالم الذي نشأت فيه أسرنا يختلف عن ذلك الذي نعيش فيه الآن.
تعود أصول أبي وأمي إلى قرية فلسطينية صغيرة لم يعد لها وجود منذ أكثر من ستين عامًا. ورغم أنهما لم يترعرعا هناك، بل في مدينة فلسطينية كبيرة، إلا أن أجدادي مرروا إليهما القيم والتقاليد التي نشئوا عليها. ومن بين هذه القيم والتقاليد أن يكون للعائلة بمعناها الواسع مكانة كبيرة في المجتمع. فنجد عدة أجيال تعيش معًا تحت سقف واحد أو في حي واحد. ويُربَّى الأبناء على احترام كبار السن وعلى الولاء. وكان الجيل الجديد هو الذي يضمن البقاء لكبار السن. وذلك لعدم توافر نظم رعاية اجتماعية من قبل الدولة. لذا، فإن الآباء في هذه المجتمعات لو ما سمحوا لأبنائهم بالرحيل، فإنهم يتطلعون بذلك فقط إلى عودتهم إليهم يومًا ما.
أما أنا، فقد نشأت في عالم مكون من أسر صغيرة. لم أترعرع وسط أجدادي أو أقاربي، ولا أتذكَّر أيضًا أنني عرفت شخصًا نشأ في ظل تأثير عائلته.
نشأت في عالم يحرص على تربية النشء على الاستقلالية. فيتعلم الأبناء منذ نعومة أظافرهم أن يعتمدوا على أنفسهم في اتخاذ قراراتهم، سواء فيما يتعلَّق بالانتقال من منزل الأسرة في سن مبكر أو بناء العلاقات أو العيش في إطار مجتمعات سكنية؛ والحصول على أول وظيفة للمساهمة بشكل مستقل في المعيشة. نشأت في عالم ينظر إلى كافة هذه الأمور باعتبارها تجارب ضرورية لمواصلة التنمية الذاتية، ويرى أن تقرير المصير هو أثمن ما يمكن للمرء أن يمتلكه.
إن تلك الهياكل الاجتماعية التي تضع اعتبارًا كبيرًا على العلاقات الأسرية والمجتمع تُسمى في علم النفس الثقافي بـ "الهياكل الاتكالية". أما "الهياكل المستقلة" فهي تلك الهياكل التي تعتمد بشكل أكبر على الفرد. مما يعني أن عائلتي قد وجدت نفسها على مدى أجيال في مواجهة تصورات ومفاهيم متضاربة عن الحياة وبالتالي عن التربية أيضًا.
الأب، دياب، عابد، امام بوابة براندنبورغ في برلين ١٩٦٧ | ©خاص
ورغم كل ذلك، يبقى السؤال هو: هل عانينا من صراع الأجيال فقط لكوننا ذوي أصول مهاجرة؟ هل يُعزى كل هذا إلى الثقافة والأصول فقط، أم أن أوطان آبائنا، كفلسطين ومصر وتركيا قد تغيَّرت منذ زمن طويل؟
في الماضي، كان أبي يمر بالسيارة الأجرة أمام بيت أمه خلال العطلة الصيفية فيجد عشرات الأشخاص يلقون عليه التحية. وكان جميع سكان الحي يعرفون بعضهم البعض ويولون اهتمامًا كبيرًا لعلاقات الجيرة. وإن حدث وضل أحدهم طريقه إلى بيت صديقه كان بإمكانه أن يسأل الجيران بكل بساطة عن اسم العائلة. كان الجيران يجتمعون آنذاك في الأعياد للخبز سويًا، وكانوا يقتسمون الطعام ويراعون بعضهم البعض.
بنت العم نور (يسارا) مع المؤلفة عند الجدان في مدينة غزة، فلسطين، | ©خاص
ولكن، على الرغم من كل هذا، إلا أن الصراعات بين الأجيال كانت قائمة بالفعل منذ عشرات السنوات. كحينما توقَّف جدي عن التحدُّث مع عمي في السبعينيات بعد أن أطال شعره تشبًّهًا بأعضاء فرقة آبَّا ABBA .
كما كان أبي قد قرر آنذاك أن يسافر للدراسة في الخارج خلافًا لتوقعات والديه. ولم تتمكن جدتي من تقبُّل تلك الفكرة حتى آخر أيامها. كانت ترى من وجهة نظرها أن الأحرى به أن يقضي عمره في إطعام الدجاج من أن يقضيه بعيدًا عنها.
أما جدتي، والدة أمي، والبالغة من العمر ٨٢ عامًا، فكان عليها أن تعتاد أولًا على هذا الكم الكبير من صور السلفي التي يلتقطها أحفادها. وأصبح لعمي، الذي قرر في يوم من الأيام أن يطيل شعره، ابن عنيد جدًا يصرّ على تصفيف شعره وتشذيب ذقنه على طراز الخنافس، وذلك على الرغم من انتقادات والديه.
أنا على يقين أنه لن يتسنى لي استيعاب كل ما سيفعله ابني بعد خمسة عشر عامًا، وأنني سأهز رأسي تعبيرًا عن رفضي للكثير من الأمور، بغض النظر عن مكان وكيفية نشأته. فأنا على سبيل المثال قد تعديت مرحلة السلفي منذ فترة طويلة، ولذا يمكنني أن أتفهَّم شعور جدتي جيدًا. وفي غضون عشرة أو عشرين عامًا ستظهر وسائط واتجاهات جديدة سينجذب إليها ابني على الأرجح، ولن تكون مألوفة بالنسبة لي.
إن صراع الأجيال، أو بالأحرى حوار الأجيال، لهو نتيجة طبيعية لمرور الزمن. ولكنه يصب في النهاية في مصلحة التنمية الذاتية والاجتماعية على حد سواء.
٢٠٢٢ فبراير