لقد عاش الفلسطينيون كغيرهم آثاراً نفسية واجتماعية وخيمة تسببت فيها جائحة كورونا والحظر المطوّل الذي بدأ في فلسطين بآذار/ مارس 2020 أسوة بدول العالم، اختبر فيها الناس خوفاً وقلقاً وانعزالاً و وصمات أنتجتها كورونا في ظل فقدان بوصلة الإرشاد النفسي والتركيز على تطبيب مصابي الفايروس جسدياً. في هذه الفترة الفوضوية، برزت مبادرات فردية استثنائية تنادي بأهمية الإرشاد النفسي والمطالبة بعدم إهماله، أولها مبادرة الأخصائية النفسية حنان وليد، ثم تبعها بوقت الأخصائي النفسي صلاح ملايشة.
منذ عام ونصف، شعرت نهى سلامة أنها ليست على ما يرام، ليست على وفاق مع ذاتها وداخلها ولا طاقة تحمّل لأي جزء من حياتها. بكت باستمرار لثلاثة شهور وكانت ذات مزاج متقلب وتشعر بالتعب على الدوام، مع شعور بالاستسلام، رافضة لحياتها كلياً، ومما زاد عبئها وجود طفلة بحاجة للرعاية والاهتمام الحثيث في ظل زوج يعمل بعيداً عن البيت. ازدادت حالتها تعقيداً أثناء كورونا وانقطاع التواصل مع العالم المحيط بها.طرقت نهى أبواب الخزان، وتواصلت مع حنان عبر فايسبوك. تقول نهى": "كان تعارفنا أعظم شيء حصل لي".
تعيش الأخصائية والمرشدة النفسية حنان وليد في المدينة القديمة لرام الله في فلسطين، وتعمل في عيادة بمركز طبي شامل، تستقبل فيها مرضاها والباحثين عن نصيحة نفسية. إن عملها دقيق وحساس، إذ تنغمس يوماً كاملاً تستمع فيه إلى هموم الأطفال والبالغين ومشاكلهم وأحاسيسهم المرهفة بتوفير مساحة آمنة لهم للحديث، أو اللعب أو ممارسة سلوكيات معينة.
يصل الطفل سلام إلى العيادة. طفل يحمل براءة ورجولة في الوقت ذاته، يشكو نعت والدته له بـ"الكاذب" عندما يخفي عنها أمر إنهاء فروضه المدرسية. وقبل جلسة التفريغ تلك، طلب من حنان أن تشاركه لعبة "السلم والأفعى"، يلعب ويتحدث عن حبّه للون الأخضر، وحنان تستمع لحديثه بتأني وحكمة، مما جعل الطفل يتحدث بانفتاح باهر أمامها دون خوف أو تردد أو خجل.
لقد عاش الفلسطينيون كغيرهم آثاراً نفسية واجتماعية وخيمة تسببت فيها جائحة كورونا والحظر المطوّل الذي بدأ في فلسطين بآذار/ مارس 2020 أسوة بدول العالم، اختبر فيها الناس خوفاً وقلقاً وانعزالاً و وصمات أنتجتها كورونا في ظل فقدان بوصلة الإرشاد النفسي والتركيز على تطبيب مصابي الفايروس جسدياً.
في هذه الفترة الفوضوية، برزت مبادرات فردية استثنائية تنادي بأهمية الإرشاد النفسي والمطالبة بعدم إهماله، أولها مبادرة الأخصائية النفسية حنان وليد، ثم تبعها بوقت الأخصائي النفسي صلاح ملايشة.
فقدت حينها حنان التواصل الوجاهي مع مرضاها، وبدأت الأمور تتعقد يومياً مع فقدان اليقين بما سيحدث غداً.
تتطوع حنان
أطلقت الأخصائية النفسية، حنان وليد، مبادرتها التطوعية في الإرشاد النفسي عبر فايسبوك بتشجيع من أصدقائها. تقول حنان: "كتبت عدة مرات عبر صفحتي أنني مستعدة للتطوع سواء ضمن فريق منظم أو بشكل فردي".تتعامل حنان عادة في عيادتها مع الأطفال من سنّ الرابعة حتى الـثامنة عشر عاماً، وتقدم لهم جلسات علاجية، واستشارات لأهاليهم.
لكن مبادرتها تلك فتحت الباب على مصراعيه أمام حالات مثل نهى وغيرها، تقول حنان: "كان الإعلان عن حالة الطوارئ مفاجئاً. انقطعت عن عملي ومرضايّ فجأة كالبقية، لذلك حاولت ايجاد طريقة تواصل للاطمئنان عليهم. لم نكن متيقنين من شيء. كم سيستمر الحجر قبل القضاء على الفيروس؟ لم نعلم. كان لزاماً متابعة مرضاي خاصة أن آثاراً نفسية بدت مصاحبة للحجر، مثلاً الطفل القلِق زاد قلقه، وظهور سلوكيات لم يستطع الأهالي التعامل معها، مثل العناد لدى الأطفال أو الرفض أو القلق أو الاكتئاب".
انطلقت مبادرتها من هنا، ثم بدأت الأمور تأخذ منحى جديد بعد إصابة أطفال بالفيروس، ثم فتحت مبادرتها التطوعية أمام الكبار، تقول "كنت مستعدة لتقديم المساعدة.. وبدأت الأمور تدريجياً"، إلّا أن عقبات عديدة كانت تواجهها.
طواقم دعم نفسي غير منظمة
تقول حنان: "انتظرت أن يصبح الدعم النفسي أكثر تنظيماً عبر طواقم وفرق تدخل من جهات مختصة، لكن حالة الطوارئ طغت على عدة جوانب، إذ سادت بلادنا حالة من التخبط وعدم يقين بالمستقبل"."عادة في حالة الطوارئ يكون التدخل بالميدان، لكن لم ينجح ذلك في حالة كورونا. كان الأولى للتدخل الطبي لمرضى أصيبوا بأعراض جسدية بسبب كورونا، لم ينفع أن نتدخل كأخصائيين نفسيين. بدى لنا أن نتمهل قليلاً. ثم بدأت التواصل مع حالات تشافت من الفيروس أو على وشك الشفاء، كما واصلت تتبع حالات بدأت تواجه فكرة "الوصمة" بسبب الإصابة بالفيروس".
تضيف: "الأمر مؤسف للغاية، خاصة للمصابين الأوائل بالفايروس. شاع خوف كبير منهم، فقيّد ذلك عودتهم الطبيعية للعمل ولم يستقبلهم أحد بمنازلهم حتى بعد تشافيهم.. كان التواصل معهم مهماً للغاية للتخلص من فكرة "الوصمة"".
استطاعت حنان التدخل النفسي عند هذه الحالات، لكن لاحقاً بدأت الإصابات بالارتفاع وصار الخوف طبي أكثر منه نفسي، وصارت تفقد التواصل حتى مع الحالات التي تتابعها بسبب إصابة أحد أفراد العائلة بالفيروس، تقول: "أصبح لدى الجميع أولوية توفير التطبيب لهم، رغم ذلك بقيت متأهبة".
"إنني لا زلت متطوعة منذ الإغلاق وحتى اللحظة. هناك أفراد يواجهون صعوبة العودة للحياة الطبيعية حيث الأحداث أمامهم غير متوقعة، مثل بعض المراهقين الذين رفضوا العودة للحياة ويفضلون التواصل عن بُعد. لذلك مبادرتي ما زالت مستمرة". فضلاً عن مساعدتها بترغيب الأطفال بالعودة إلى مدارسهم، تقول حنان: "وجد الأطفال عامة أن البقاء بالبيت أسهل لهم وكأنّ العالم يواجه خطراً، دون أن يصرّحوا بذلك علانية، فضلا عن شعورهم بالوحدة ولن يسعفهم أحد في حال تعرضهم لخطر ما".
تضيف: "كل حالة مصابة بأعراض نفسية بسبب الجائحة لها خصوصيتها".
تصف نهى حالتها بعد خضوعها لجلسات تفريغ نفسي مع حنان عبر الأنترنت: "لو شاهدتي صوري ستجدينني مختلفة إنسانة مختلفة اليوم. منحتني حنان مساحة آمنة للحديث والتفريغ في جلسات أسبوعية، راعت مشاعري على الدوام، وتنصحني في تربية طفلتي في حال تعقدت الأمور. لا ترانا مجرد أشخاص يدفعون لها المال بالمقابل. أشعر أن تعاملي مع عائلتي ومشاعري اليوم أصبح سلساً".
صلاح ملايشة - بطل آخرغير معروف
رغم عزوف الأخصائيين النفسيين عن تقديم الدعم خلال الجائحة، كان الأخصائي النفسي والمرشد صلاح ملايشة يحاول مساندة حنان.يعمل صلاح في بعض المؤسسات ومتطوعاً في أخرى. درس علم النفس المجتمعي في جامعة بيرزيت. يقول أن جذور تطوعه في تقديم النفسي خلال الجائحة تمتد إلى أوقات الحروب على قطاع غزة منذ 2014 ووجود مرضى غزاويين في مشافي الضفة الغربية لتلقي العلاج.
تطوع صلاح الذي ينحدر من بلدة جبع في منطقته بمدينة جنين، شمال الضفة، أيام الجائحة. يقول: "كنت أساعد الناس في الحفاظ على هدوئهم وكيفية التمتع بصحة نفسية داخل البيوت خاصة بعد ورودنا إشكاليات كثيرة حدثت داخل الأسر الفلسطينية بين الأطفال وذويهم، أو الأزواج..".
ووفق خطته، كانت خدمات الدعم النفسي موزعة على عدة مجالات، ورغم "عشوائيتها" وفق حديثه ، إلّا أنه استعان بمركز الإرشاد الفلسطيني وبخبراء بالصحة النفسية، ثم توسع تطوعه وخرج عن نطاق بلدته جبع ومدينته جنين شمال الضفة الغربية ليصل مدينة نابلس في الوسط.
وفي مركز عمله "الإرشاد الفلسطيني" حاول صلاح تقديم الدعم من خلال الاستجابات الهاتفية وإجابة أسئلة المحتاجين واستفساراتهم، كما أنه عممّ رقم هاتفه عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأي شخص يحتاج استشارة أو دعم، يقول: "كانت الاستشارة النفسية مبنية على التحويل لاحقاً لجلسات فردية".
يتحدث صلاح عن فكرة الاستشارة الهاتفية ويقول "إنها نتاج تدربي على أيدي متخصصين نفسيين، وتجميعي لخبرات سابقة في الخدمات عن بعد، وتجارب لأخصائيين عملوا أوقات الحروب في الضفة وغزة، وتم تجميع مادة تدريبية، قمت بتبويبها وتشكيلها بعدة طرق حتى يتسنى للآخرين الاستفادة منها، وهي مادة واقعية وسريعة الاستجابة لاستشارات الأفراد البالغين تحديداً".
التحديات التي تواجه تطوعهما
غلب على توجه الحكومة الفلسطينية ممثلة بوزارة الصحة توفير الأسِرة والاكسجين والمستشفيات للمصابين، وحاولت وزارة التربية والتعليم من جهتها تجنيد مرشدي المدارس الاجتماعيين لتقديم دعم نفسي عن بعد، ورأت حنان في ذلك "نقطة ضعف"، قائلة :"لم نتدرب كفاية على مواجهة الجائحة".ورغم تدرب طواقم وزارة الصحة على تقديم الدعم النفسي إلّا أن ذلك "جاء ذلك متأخراً" وفق حنان، كما فعلت وزارة التعليم التي "حاولت إغلاق الفجوة الأكاديمية لدى الطلبة دون الالتفات للفجوة النفسية، فقد أُلغيت حصص الرياضة والفن وكافة الأنشطة اللامنهجية. لم يجربوا التفريغ النفسي للتلاميذ، فشهدنا تحويلات بأعداد كبيرة للعيادات الخاصة".
واجهت حنان وصلاح تحديات كبيرة أثناء تطوعهما؛ والتحدي الأبرز كان في "العمل العشوائي". تقول حنان:"كان عملنا كأخصائيين كان خلال الحجر عشوائياً، بعد التخفيف تدريجيا من حالة الطوارئ بدأت مراكز وعيادات الطب النفسي تتلقى أرقاماً مرتفعة من الحالات بحاجة للمساعدة".
قدمت حنان خلال الحجر الدعم النفسي والإرشادات لحوالي عشرين شخصاً وفق معرفتها وخبرتها، حيث طغت الإرشادات الوقائية والطبية من كوفيد 19 على الإرشادات النفسية. تشرح قائلة:"كان الشخص يتكلم عن مشاعره والمساعدة التي يحتاجها، وعن تخوفاته وشعوره بالذنب، أو الخوف وهواجس الموت، كان مهماً احتواء مشاعره وتوجيهه نحو سلوكيات علاجية جديدة، فضلاً عن الكوابيس لدى الأطفال والتي حاولت معالجتها بتزويدهم بأنشطة للعب والتنفس وتشجيع الكبار على اللعب معهم".
شهدت هذه الحالات ارتفاعاً بعد عودة التعليم الوجاهي وشروع المدارس في تحويل طلبتها نحو مراكز الإرشاد النفسي والسلوكي. تقول حنان "بدأت أقابل أسبوعياً حوالي عشرة تلاميذ ممن يعانون من مشاكل سلوكية".
ينظر المريض سلام من نافذة الغرفة في رام الله حيث تجري جلسة علاجه مع أخصائية علم النفس والمستشارة حنان وليد.
"ومع عدم اليقين وعدم وجود اللقاحات والإغلاقات المتكررة أثناء فترة الطوارئ والضغط الاقتصادي، زاد توتر وقلق الناس واضطراباتهم النفسية، وزاد التفكك العائلي، خاصة في المدن. ورغم الانفراجات، يقول صلاح، "لا زالت بعض الحالات بحاجة لإرشاد نفسي بسبب حدوث إشكاليات حقيقية لديهم في التواصل، ولا زالت صدمة الجائحة ترمي بظلالها على الفلسطينيين".
مبادرة دون خط نهاية
تواصل حنان مبادرتها حتى يومنا هذا بشكل فردي، تقول "هذا مؤشر خطر بالنسبة لأخصائي"، فالأفضل وجود مرشد أو مشرف وقت الأزمات يدعمنا ويرشدنا، فضلاً عن إيجابيات العمل الجماعي"."لم يحتويني أي إطار أو مؤسسة وهذا ما أزعجني.. رغبت كثيراً بانضمامي إلى فريق كما لم ينضم أحد لمبادرتي. ربما شعروا بالخوف وعدم تقين، هذا فضلاً عن تباين الآراء في تقديم التطبيب والدواء للمصابين أولا ثم الدعم النفسي. رغم ذلك لم ينظم هذا الدعم في إطار معين حتى اللحظة".
وحول تقييمها لمبادرتها، ابتسمت قليلاً وقالت "ربما كنت مستعجلة في طرحها. ربما كان يفترض الانتظار قليلاً لكنني لم أرد التأخر في تقديم الدعم. سعيدة بتجربتي خلال الجائحة، وقد عرفتني على الطبيعة البشرية وقت الأزمات".
تطوع حنان وصلاح في ظل انعدام جاهزية أو وجود فريق وطني وشامل للصحة النفسية في فلسطين.
يقول صلاح: "نحن بحاجة إلى فرق متطوعة ومؤسسات جاهزة في كل محافظة، وتنظيم للجهد العشوائي بشكل رسمي، ومكافأة المتطوعين أيضاً". وبخيبة أمل يقول: "لم تقدّر أي جهة رسمية جهود متطوعي الدعم النفسي خلال الجائحة ولم يشكرهم أحد على ذلك".
عاد الطفل سلام إلى بيته منهياً جلسة التفريغ النفسي في عيادة حنان مليئاً بالثقة في قدرته على إنهاء واجباته المدرسية وجعل والدته فخورة به. طفل وطالب مدرسة لا يعي بعد هذا العالم الكبير المعقد، إلّا أن حنان ومبادرتها قادرة على تمهيد الطرق أمام سلام وغيره على فهم العالم وتقبله.
٢٠٢٢ أبريل