روايات الاستدامة:  4 د إعادة النظر في الحكم القديمة

شجرة قديمة من الأسفل. © Goethe-Institut

مع استمرار تأثير التغير المناخي على العالم، يصبح تأثير الإنسان على البيئة أكثر وضوحًا. ومع ذلك، فإن نشر القصص حول الاستدامة البيئية ليس ظاهرة جديدة. فعلى مدى قرون، شاركت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا روايات تتناول هذا الموضوع.
 

حكايا الاستدامة البيئية: كيف عالجت الأسطورة علاقة الإنسان بالمكان والطبيعة؟ 

الحكاية ليست خطابًا مباشرًا. الحكاية تقول الأمور دائمًا بشكل غير مباشر. إذا استندنا على هذه القاعدة فإن النتيجة ستكون وجود حكايات تحكي عن الاستدامة في كل ثقافات العالم وهي حكايات أو ميثولوجيا مختلفة عن تلك الموجودة في الكتب المدرسية المخصصة للأطفال والتي تستخدم أسلوب المباشرة والتلقين. 

هذا النوع من الحكايات الذي يربط بين الإنسان والبيئة والطبيعة والمحيط والكائنات الحية والجغرافيا، وهي حكايات تتحدث عن استعلاء الإنسان على البيئة وتدميرها، كما تتحدث عن مظاهر الحياة الانسانية ضمن سياقات المكان الذي يؤثر في أحداث الحكاية كقصص الحب الملحمية التي انتهت بغرق المحبوب في النهر أو كقصة الشجرة التي أنقذت الفتاة المسكينة من الوحش أو كحكايات القبائل في أفريقيا وحكايات الصحراء في الخليج العربي وحكايات الناس على ضفاف نهري دجلة والفرات أو حكايات الأساطير المصرية بمحاذاة نهر النيل في مصر.  

وفي صلب هذه الموضوعات التي حظيت باهتمام الإنسان في الشرق الأوسط كانت حكايات المكان بما يشمل ذلك المحيط والبيئة والطبيعة والجغرافيا كالجبال والأنهار والصحراء والسهول والحيوانات وأماكن الزراعة لما لها من تأثيرات كبيرة في حياة الإنسان ومعاشه وتكوينه. فالحكاية تهتم بالمسائل التي تشغل بال الإنسان وتحظى باهتمامه من موضوعات كالحياة والحب والحسد والماورائيات والقدر والأخوة والصداقة والعلاقات العائلية والبحارة والرحالة وغيرها من المسائل، وهذه الموضوعات إنما تتأثر بالسياق المكاني للحكاية لأن أحداثها حصلت داخل هذه البيئات فأثرت بمجرى أحداثها كما أثرت بشخوصها. 

فالطبيعة فرضت أمرها على الحكاية سيما وأن الحكاية تعالج المسائل الأساسية للبشر ولا تهتم بالمسائل الثانوية. وعلى سبيل المثال، فحكايات الغياب والموت نجدها بكثرة في المدن الساحلية المتوسطية بسبب كثرة الرحلات البحرية والأسفار والتي كانت تتطلب أشهرًا وسنوات لإتمامها مما ساهم في نشوء حكايات الموت والغياب والحكايات التي تحكي عن الميت العائد لإيفاء ديونه. 

وفي الميثولوجيا الفرعونية يعتبر النيل هدية من الآلهة للبشر. تقول الأسطورة أن إله الشمس رسم نهر النيل بهدف جعله العامود الفقري للأرض، وتضيف الأسطورة أن الإله أمر النيل بالفيضان كهدية للشعوب الفقيرة التي كانت تعيش في مصر وذلك بغية تلقيح الأرض من أجل الزرع. وهكذا يكشف لنا لسان حال الأسطورة عن العلاقة الوطيدة والرابط المباشر بين الإنسان وبيئته، فحياة الواحد منهما مرتبطة بالآخر. 

وتعتبر سيرة الأمير سيف بن ذي يزن عمل ملحمي ضخم يدور حول نهر النيل. وهي سيرة شعبية عربية حفظها الضمير الشعبي العربي الفني. تقول الأسطورة أن مهمة الأمير كانت إحضار كتاب النيل الذي يحتجزه الأحباش في بلادهم، وعبر امتلاكهم الكتاب إنما حجزوا النيل عن مصر فتوقف مياهه من الجريان. ورحلة الأمير إلى مصر مليئة بالسحر والكهانة والخوارق والجن والطلاسم والمقابر الفرعونية والتماثيل والبراكين والوحوش. وترتبط السيرة ارتباطًا وثيقًا بالأماكن فتسرد التفسيرات الأسطورية خاصة أسماء المدن المصرية وغيرها، بحسب ما جاء في كتاب "أديب الأسطورة عند العرب" للكاتب فاروق خورشيد. 

ونجد في غناء الزجل المنتشر في الشرق العربي علاقة متينة بالفلاحين والأرض والموقدة والنار والمحاصيل والمطر والغيم والمياه وجرة الفخار والينابيع ودموع البشر وكافة تفاصيل الحياة. فكل قصيدة زجلة تحكي حكاية. 

يا وارد النبعة تملي 

ويا دموع العين هلي 

يا ماية النبعة اتركيها 

ومن دموع العين ملي 

 

حكايات الطبيعة: 

تقول الأسطورة أنه وخلال سفر حاتم الطائي الرجل العربي الذي اشتهر بكرمه أصابهم الجوع والعطش، وحين وصلوا إلى شجرة كبيرة عمرها مئات السنوات وجدوا أغصانها غير مكتملة الثمار بعد. رفض حاتم الطائي قطع أوراق الشجرة لسد جوع قافلته وقرر أن يجلس تحت الشجرة ليحتمي من ظل الشمس وناموا تحت الشجرة. وفي صباح اليوم التالي إبان استعداد القافلة لشد رحالها لمتابعة السفر وجدوا أن الشجرة قد أثمرت وتساقطت ثمارها اللذيذة على الأرض. كانت الثمار تقديرًا لصبر حاتم الطائي وحفاظه على الشجرة حتى في أوقات الحاجة، والمغزى من هذه الحكاية ذات دلالة عن قيم الصبر والعطاء، وكيف يمكن أن يكون الرفق بالطبيعة مهمًا للإنسان والحيوان على السواء. 

وهناك حكايا أخرى عن لقاء حاتم الطائي بشجرة سحرية ذات قدرات غريبة وقادرة على احتياجات ورغبات من يقتربون منها بصدق وإخلاص. وهكذا يقرر حاتم الطائي مساعدة الناس المحتاجين إلى مأوى أو طعام وغير ذلك عبر طلبه من الشجرة تقديم المساعدة كونه مثالًا للشجاعة والكرم والإخلاص. والرسائل الأساسية من الحكاية تتركز في كرم الضيافة والرحمة ومكافأة الأعمال المتفانية وكيف أن الطبيعة تعطي للبشر والطيور والأرض النعم والخيرات شرط أن يبادلها البشر بالحب والأمان والعناية. 

وكثيرة هي حكايا الإنسان مع الشجر، ومنها قصة الصداقة بين الصبي والشجرة التي تقوم بوهب نفسها للصبي كي يحقق أحلامه في ظل سرعة تطور المجتمع العمراني والمدينة واكتظاظها بالمباني والتضييق على الطبيعة. وقصة الشجرة وطائر السنونو الذي يريد أن يبني عشًا بين أغصانها، وقصة الحطاب والشجرة التي تفتح فمها وتكلمه وترشده إلى الطريقة المثلى لتأدية عمله دون إلحاق الأذى بالطبيعة. 

ونجد أيضًا حكاية النخلة وشجرة الزيتون، وهما شجرتان متجاورتان تشتركان في نفس الأرض. وبالرغم مما يحملانه من اختلافات فإنهما يتعلمان كيفية التعايش بسلام بعدما أدركوا أن لكل منهما قيمة وأهداف في الحياة. وكذلك قصة الشجرة ونبع المياه والعصافير والمصلحة المشتركة بينهم جميعًا. ترمز هذه الحكايا إلى الاحترام المتبادل بين العناصر المتنوعة والمختلفة في الطبيعة وضرورة تعزيز الانسجام بين هذه العناصر بهدف تحقيق الاستدامة. وأيضًا قصة الشجرة المتعالية على بقية زملائها علمًا أنهم جميعًا يملكون الثمار والظل. 
 

تكمن العبرة في هذه الحكاية في أن الطبيعة تكافئ من يعاملها بالحسنى.
فراس حميه

حكايات الحيوانات: 

وهناك أيضًا قصة عامل البناء والشجرة العجيبة، وتحكي هذه الحكاية عن حاجة العامل معروف إلى أخشاب قوية فيصادف شجرة كبيرة وحين يضرب فأسه عليها يتضح أن الشجرة قوية كالصخر ولا يكون هناك أي مفعول لضربة فأسه على جذع الشجرة، وسرعان ما يقع معروف عن الشجرة ليدخل إلى عالم مليء بالحيوانات الضخمة والغريبة ومنها حيوانات وأنصاف بشر معًا. هذه المخلوقات كانت منذ عشرات السنين مختبئة بانتظار معروف كي ينقذها من الشر المتمثل بالإنسان الصياد الجشع الذي أمعن في قتل الحيوانات وقطع الأشجار وتهديد الطبيعة. 

ونجد في حكايا كليلة ودمنة حكاية الحمامة المطوقة ووقوعها في شباك الصياد مع رفيقاتها دون قدرتهن على الفكاك من المصيدة. وكانت الحمامة المطوقة أرجحهم عقلًا فاقترحت عليهم أنه لا مجال للخلاص من شباك الصياد سوى بالتعاون والعمل الفريقي ونبذ الأنانية لأن تفكير كل حمامة بنفسها سيجعلهم يتخبطون داخل الشباك دون أية فائدة أو أمل. وهكذا طار الحمام مع الشبك وطلبوا المساعدة من الجرذ الذي قام بقرض الشبك والإفراج عن الحمائم. 

أما حكاية المزارع والأفعى فإنها تنطلق لمعالجة مسألة اللطف والشر، وكيف أن العلاقة بين طيبة الإنسان والطبيعة يمكن أن ترتد عليه بالسوء إن لم يحسب حساب أفعاله في تعامله مع الطبيعة. تقول الحكاية أن مزارعًا وجد ثعبانًا على وشك الموت بسبب البرد فقام بإنقاذه من باب الشفقة ووضعه داخل معطفه لينعم بالدفء، وعندما استعاد الثعبان قوته أقدم على لدغ المزارع لدغة سامة. يسأل المزارع الثعبان عن سبب فعلته تلك فيجيب الثعبان أن تلك هي طبيعته وأنه كان عليه أن يعرف ذلك وأن يكون حذرًا في تعامله مع الطبيعة الأم، وكما يجب على الإنسان أن يعمد إلى تطويع الطبيعة بالطرق الإيجابية، لا أن يرمي نفسه في التهلكة. 

حكاية أخرى عن المزارع والأفعى تشير إلى أن مزارعًا صادف أفعى جائعة فقام بتقديم الحليب لها وكافئته بقطعة نقدية من الذهب. وهكذا في كل يوم كان المزارع يقدم لها كوبًا من الحليب ويعود في المساء ليجد قطعة نقدية في الكوب. في يوم من الأيام طلب المزارع من إبنه أن يقوم بالمهمة بدلًا عنه بسبب انشغاله، لكن ابنه أصابه الطمع وقرر ضرب الأفعى والحفر في جحرها ظنًا منه أنها تخبئ الذهب إلا أنه لم يجد شيئًا داخل جحرها. عندما علم الوالد بما حصل وبخ ابنه وقام بالاعتذار من الأفعى وقدم لها كوبًا من الحليب. وافقت الأفعى على مسامحة ابنه ووافقت على استمرار صداقتهما لكنها قررت عدم إعطاءه قطعة من الذهب بعد اليوم. تكمن العبرة في هذه الحكاية في أن الطبيعة تكافئ من يعاملها بالحسنى فترد له تعبه أضعاف مضاعفة وأما أذية الطبيعة فإنما ترتد على الإنسان. 

حكايات المياه: 

تركت السيدة هاجر زوجة النبي إبراهيم في صحراء مكة القاحلة مع طفلها الصغير إسماعيل. بدأت هاجر البحث عن مياه للشرب بعد أن أصابها العطش الشديد مع طفلها، وبعدما توقف ثديها عن استدرار الحليب الكفيل بتأمين الغذاء لطفلها. وبينما كانت تجري بين تلال الصفا والمروة، انبثق بئر زمزم من الصخور بعدما قام الملاك جبرائيل بضرب جناحه في الصخور فانبثقت المياه. هذه المياه كانت السبب في تحويل مكة من صحراء قاحلة غير مأهولة بالبشر وفاقدة للشجر والمياه إلى مكان قابل للعيش والحياة والنمو والتطور والازدهار، ومع الوقت سكن نسل إسماعيل وذريته في المنطقة حتى جاء الإسلام والنبي محمد وصارت مكة مدينة عامرة وقبلة المسلمين مما يشير إلى أهمية دور المياه في بناء الحضارة. 

والرواية تقول أن السيدة هاجر مشت سبع مرات متتالية بين الصفا والمروة في بحثها عن المياه، وفيما بعد أصبح ذلك ما يعرف عند المسلمين بالحج والطواف. وتشير هذه الحكاية المنبثقة من الموروث الديني الإبراهيمي على أهمية الحفاظ على الموارد المائية الثمينة وتقدير قيمتها، وهو موضوع مهم في منطقة شبه الجزيرة العربية مما يدل على ارتباط الإنسان ببيئته وأرضه، كما يشير إلى أن الأسطورة تتفاعل مع السياق الجغرافي فتتشابك الأحداث تبعًا للطبيعة والمكان بما لهما من تأثيرات على الشخصيات. 

والأساطير المحكية عن مياه الحياة كثيرة جدًا. وتقول إحدى الحكايات أن مياه البحر كانت حلوة وخالية من الملح، وأن رجلًا غنيًا طماعًا وأنانيًا وحسودًا قد سرق المطحنة العجيبة من أخيه الفقير وهرب في البحر على متن المركب. حينها أمر الرجل الغني المطحنة أن تخرج له الملح وفرح في بداية الأمر لكن المطحنة لم تتوقف عن إخراج الملح من داخلها إذ كان لها سر لإيقافها لا يعرفه سوى الرجل الفقير. وهكذا استقرت المطحنة في قعر البحر وتحولت معها مياه البحر إلى مياه مالحة. وتشير الحكاية إلى أهمية مساعدة الأخ لأخيه وأهمية الاقتناع بما لدينا وإلا أذينا أنفسنا وألحقنا الضرر بالأخرين وبالبيئة. 

ومفهوم عدم اختلاط المياه المالحة والمياه العذبة هو فكرة شائعة موجودة في مختلف التقاليد الثقافية والدينية وترمز إلى فكرة النقاء والطهارة وعواقب اختلاط العناصر المتعارضة مع بعضها البعض. ومن جملة هذه القصص ما نجده في القصص الدينية كحكاية النبي موسى مع القوم غير الشاكرين لله. يمر موسى بهم فيجدهم رازحون تحت كارثة في الصحراء إذ تندر المياه لديهم فيضرب عصاه الصخور فتنفجر المياه. 

Failed to retrieve recommended articles. Please try again.