قوة الحكايات  5 د قوة الحكاية.. هل يعد الموروث الشفاهي عنصرًا في تكوين الشخصية الفردية؟ 

threads connected on a board © Goethe-Institut

على مدار قرون، كان فن السرد الشفهي جزءًا أساسيًا من التراث الثقافي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يشكّل الهويات، ويجسر الفجوات بين الأجيال، ويربط بين المجتمعات المتنوعة. من خلال القصص الحيوية التي تنتقل من راوٍ إلى آخر، تعكس هذه الحكايات التاريخ والتقاليد والحياة اليومية.

"أهمية الموروث الشفهي تكمن في تنوعه بحيث يشكل منظومة أدبية وثقافية متكاملة تساهم في تكوين الإنسان إلى جانب الأدب المكتوب" يقول الحكواتي اللبناني الفرنسي جهاد درويش في حديثه الخاص لموقع رؤية. ويشير درويش إلى أنه في السنوات الأخيرة في بعض البلدان الغربية توصل علماء الإنسان إلى أن غياب الموروث الشفهي يشكل نقص في تربية الأطفال. ويرى أن علماء التربية والباحثين يعتبرون أن الموروث الشفهي ينمي مناطق من الدماغ لا تنميها الكتابة لوحدها، لذلك فهناك تكامل بين الشفهي والمكتوب. واليوم هناك تجارب تنتشر وتتوسع لإعادة إدخال الحكاية الشفهية إلى المدارس في العديد من الدول الغربية، وفقًا لدرويش. 

ويتابع درويش تفنيد أهمية الموروث الشفهي بالقول "طبيعة العمل الشفهي تفرض على كل ناقل للحكاية والأدب الشفهي أن يقوم بتكييفه حسب تجربته الخاصة ونظرته للحياة ونظرته للعلاقات بين البشر ونظرته للعلاقة بين البشر والمحيط من حيوانات وطبيعة". ويضيف "هكذا شيئًا فشيئًا تحمل كل حكاية تجارب الأجيال السابقة، بدءًا من اللغة والمصطلحات إلى طبيعة المعاش اليومي والفكر السائد والتقاليد والأعراف والقيم وأشكال الحياة المادية كالبيوت والأرض والأماكن كافة". 

الحكاية الشفهية تنتقل من إنسان إلى إنسان ومن جيل إلى جيل طوال مئات السنوات. هذا الانتقال يبقي الحكاية حية وفي تطور مستمر وتتطور مع تطور حامليها. وترى الحكواتية البحرينية فاطمة الزاكي أن "الموروث الشفهي مهم جدًا لما يحمله من توثيق لزمن الأجداد والآباء والماضي من حيث وصف المعيشة والسكن واللباس والعادات اليومية، وهي بذلك تعد سجلًا وثائقيًا لماضي الشعوب وحافظة لهوية البلاد وأهل البلاد". 

ومن وظائف الموروث الشعبي أنه وسيلة للترفيه، وأداة لإبراز المكانة الاجتماعية التي تتمتع بها القبائل والعشائر والطبقات أو الأعراق أو الأجناس كالرجال والنساء أو أصحاب مهن معينة. برأي درويش، تنقل الحكاية معلومات ومعارف وقيم علمية وعملية ومجتمعية ومفاهيم مشتركة للجماعات البشرية. مضاف إلى ذلك، فالحكاية أداة تعليم وتربية اجتماعية عبر نقل القيم والمثل والمعايير بطريقة غير مباشرة وبحرية مطلقة وبصيغة لطيفة ومحببة. 

فالحكاية تترك الحرية للمستمع لاستخلاص ما يقدر على استخلاصه من الحكاية، حكمة أو عبرة أو مغزى ما أو معنى رمزي أو جملة أو سلوك أو لذة معينة ذات تأثير في المستمع. لذلك فالحكاية "تعمل على وعي الإنسان الفردي، ففي مجتمع حيث يحاول فيه كثيرون فرض آرائهم على الأخرين وإرشادهم إلى كيفية التصرف والتفكير والسلوك والأكل والشرب والنوم، ففي مجتمع كهذا، مهم جدًا أن يكون هناك مساحة للتفكير والاختيار الحر وهذه المساحة هي مساحة الحكاية". فالحكاية يمكن أن تعمل على إفشاء المسكوت عنه. فالحكاية لا تفرض رأي، بل تقدم معلومة. الحكاية ليست موعظة وأينما دخلت الموعظة إلى الحكاية بطلت.
 

يمكن لأي شعب ما أو لأي قضية ما أن تتأسس على حكاية أو سردية شفاهية تكون وظيفتها شد أواصر الأفراد والتحامهم في بوتقة اجتماعية واحدة وهذا ما يمكن أن ندعوه بالانتماء.
فراس حميه

كذلك تعمل الحكاية في مجال مهم من الفكر ألا وهو تعزيز ملكة الخيال لما فيها من ألغاز وغرائب وعجائب وكل ما لا يمت للمنطق بصلة ويثير الدهشة، والدليل على ذلك الأفلام السينمائية العالمية التي أخذت شهرة واسعة وهي أفلام عجائبية خرافية مثل هاري بوتر وأفلام السحرة والخوارق. 

لا تقف أهمية الموروث الشفهي عند هذا الحد، فمنذ القدم، اعتبر الموروث الشفهي وسيلة تلاقح ثقافي بين المجتمعات والجماعات والثقافات كافة، والدليل على ذلك يأتي من الطقوس سيما الحج في مكة حيث كان يعود الحجاج بزوادة وفيرة من الحكايات، بعد طوافهم لأسابيع وأشهر على أقدامهم واحتكاكهم وتفاعلهم وتأثرهم وتأثيرهم بالتجمعات السكانية المختلفة من السعودية إلى تونس وليبيا ومصر والحجاز وسوريا والعراق ومختلف الدول المسلمة. 

يمكن لأي شعب ما أو لأي قضية ما أن تتأسس على حكاية أو سردية شفاهية تكون وظيفتها شد أواصر الأفراد والتحامهم في بوتقة اجتماعية واحدة وهذا ما يمكن أن ندعوه بالانتماء والروح النفسية الواحدة للجماعة. فثقافة المجتمع هي التي تقدم المادة الخام التي يصنع منها الفرد حياته، وهذه الثقافة تسمو على الفرد وتطغى ولها طابع "فوق فردي"، وأشد أنماطها تأثيرًا تلك التي تكون خفية أو مستترة أو كامنة أو لاشعورية، وعند الأزمات التي تعصف بالأفراد والمجتمعات يظهر الجانب الخفي المستتر إلى العلن ليصبح شعوريًا على صعيد الفكر والسلوك والمشاعر (الأمثال الشعبية والحكم التي يرددها الناس في مواقف وسياقات محددة، فلكل مثل شعبي حكاية تقف خلف انبثاقه)، وفقًا لدراسة أعدها السيد حافظ الأسود ونُشرت في مجلة عالم الفكر في عام 1985. 

فحين نتحدث عن الشخصية لا يمكن استبعاد السياق الذي يؤلف ويؤثر ويطبع الأفراد بالثقافة، سيما وأن التراث الشفاهي الشعبي يعتبر تلك الدائرة الكاملة من الفكر والممارسة والأعراف والطقوس والحكايات والموسيقى والرقصات والترفيه والخرافات التي تنقل مشافهة من جيل إلى جيل عبر العصور والذي يشكل الظواهر السيكولوجية للأفراد ضمن الجماعات وهو كذلك مجموع إبداع الجماعة ككل عبر الزمن وهو متوارث ويعيش في أفواه الناس لعدة أجيال، وتصفه عالمة الأنثروبولجيا روث فينيجان بكونه "أدب الشعب". 

 والفلكلور اللبناني يلعب هذا الدور، وأبهى مظاهره في الزجل وفي الدبكة اللبنانية مثل فرقة كركلا وغيرها، والطعام اللبناني وتصميم المنازل التراثية والحرف اليدوية والفنون الشعبية وتقاليد الأعراس اللبنانية وصولًا إلى أعمال مسرح الرحابنة وفيروز (والقيمة المعطاة هنا ليست للأفراد بل للتراث). 

حكايات الحكواتي وألقابه 

هناك العديد من أشكال الأدب الشفهي المنتشرة في الشرق الأوسط ومنها غناء الزجل في بلاد الشام والذي يعد أدب العوام الموزون باللغة العامية مع نكهة موسيقية إيقاعية ومنها المواويل والموشحات والعتابا والميجانا، وقد تطور الزجل وامتد حتى وصل إلى الأندلس. وقد حصدت شارة المسلسل السوري "عاصي الزند- ذئب العاصي" نجاحًا مذهلًا في رمضان الكريم هذا العام والذي تدور أحداثه على ضفاف نهر العاصي، والأغنية عبارة عن عتابا رومانسية ملهمة. 

والحكايات العجائبية التي تحتوي على غيلان وجن وتعد الأكثر انتشارًا في لبنان، وكذلك حكايات الذكاء والحيل، تلك الحكايات التي ينجح فيها الضعيف من خلال الحيلة والحنكة في مواجهة المجتمع والصعوبات مثل حكايات الشاطر حسن. 

وأما حكايات السير الشعبية فقد انتشرت لقرون في بلدان الشرق الأوسط العربية كحكايات عنتر بن شداد والسيرة الهلالية وسيرة الأميرة ذات الهمة وأبي حمزة البهلوان والظاهر بيبرس لكنها في العقود الأخيرة تراجعت كثيرًا ومرد ذلك إلى طول هذه الحكايات وتغير أنواع الجمهور وتغير الأشكال الثقافية والفنية بشكل عام لناحية الإقبال على أعمال أقصر وقتًا بهدف إمكانية الاستماع إليها. 

وتنتشر أيضًا حكايات الخرافات، الحكم، الأمثال الشعبية، النوادر مثل جحا قراقوش وأبو النواس، الملاحم، حكايات الصيد والنبات والأشجار والزهور ومواسم الحصاد والأنهار، وحكايات الحيوانات والطيور ومنها كليلة ودمنة ومنبعها الهند ووصلت إلى بلادنا وانتشرت وشاعت بعد ترجمتها للعربية من قبل عبدالله بن المقفع، وحكايات ألف ليلة وليلة، وحكايات الملوك والأمراء والأعوان والوزراء ومنها سيف بن ذي يزن ومنبعها اليمن، والسامر الشعبي في مصر، وتنتشر كذلك بدرجة أقل حكايات الحكمة وحكايات الصوفية. 

وهذه أمثلة عن حكايات شعبية منتشرة في الأقاليم المصرية تتصدى لزنا المحارم وبذلك تسعى الحكاية لنشر العدالة والخير. فزنا المحارم قضية مخجلة وجارحة، للدرجة التي تجعل ضحاياها أكثر رغبة في مداراتها من غيرهم، حيث تحكي الحكاية عن بنت جميلة يريد عمها معاشرتها، فتختبئ أعلى نخلة، وكلما أرادت النزول، قالت للنخلة: 

"يا نخلة اقصري 

حتى تبقي زي صابعي الخنصري" 

وكذلك استخدمت الحكايات في المقاومات الشعبية كفعل سياسي تحرري للإنسان والمكان. وفي مصر نجد السامر الشعبي الذي يحتفل مع الشعب بالنصر والتغني بالبلاد عبر أغانيه وآلة العزف. 

"يا مصر يا بلد النعمة 

إنشالله يلي يكرهك يعمى" 

رابعة القلايدة، حكواتية تونسية، تشير إلى أن "مصطلح الحكواتي غير متداول في تونس وتستخدم مصطلحات مثل الفداوي أو القوال أو الشرقي". وأما الحكواتية البحرينية نسرين النور فتشير إلى أنه في البحرين وسائر بلدان الخليج العربي "تسمى الحكاية حزاية وجمعها حزاوي"، وأما في مصر فيدعونه الراوي، وفي بلاد الشام يدعى الحكواتي، وفي العراق كان يسمى القصخون

الحكواتي وتحديات العصر! 

الحكواتي قادر على التأقلم مع الأوضاع والمستجدات عبر العصور المختلفة، وكلما ظهرت مسائل وقضايا جديدة كلما ظهرت حكايات تعالج هذه المسائل والقضايا. الحكاية لم تمت وتأقلمت مع كافة الظروف وبقيت على قيد الحياة لأجيال قبل أن تكون كتابية، فلو لم تكن قوية لما عاشت آلاف السنين. 

ومع التطورات الصناعية تراجع دور الحكواتيين قليلًا لكنهم استعادوا مواقعهم من جديد عبر التكيف مع المستجدات وتعاملوا مع هذه التغييرات واتخذت أماكن الحكي أشكال جديدة في المدارس والمستشفيات والسجون والمقاهي والمهرجانات. وأعداد الحكواتيين الآن في ازدياد وتخطت أعدادهم اليوم ما كانت عليه أعدادهم في الخمسينات من القرن المنصرم. وكذلك هنالك مهرجانات عديدة تقام سنويًا لفن الحكي في كل بلدان العالم. واللافت أنه في تاريخ الحكواتيين لا توجد أخبار عن نساء امتهن هذه المهنة بينما في عالم اليوم صار أكثر من نصف الحكواتيين من النساء وهذا دليل على قوة هذا الفن وتطوره ليطال شرائح مجتمعية جديدة، بحسب درويش. 

التكنولوجيا حلت بعض العوائق أمام انتقال الموروث الشفاهي سيما الحكايات في عصر السرعة والاستهلاك والعمل المضني. التكنولوجيا سمحت بوصول الحكاية إلى كل الأماكن وفي كل الأوقات، وبات من الممكن على الحكواتي استخدام الاضاءة والموسيقى وبعض المؤثرات البسيطة لتحسين الجو العام لحكايته. وتعتبر الحكواتية البحرينية نسرين النور أن "التقنيات الحديثة تجذب الأطفال وتزيد من منسوب المتعة عندهم". 

ومن جملة ذلك أيضًا ما شهدناه في أزمة تفشي وباء كورونا حيث استمر الحكواتي بسرد حكاياته عبر الانترنت وزاد الاهتمام بالحكايات نظرًا لتوفر الوقت وتعطل كثير من مجالات الحياة والعزلة التي عاشتها البشرية، وهذا شيء عظيم جدًا "أن يكون بمقدور الحكواتي سرد حكايته في مكان ما ونقلها مباشرة إلى أجزاء أخرى من العالم" بحسب درويش. لكن ذلك لا يستعيض عن أهمية قيمة الحضور الجوهرية في فن الحكي: حضور الحكواتي وحضور المستمع، حضور على الصعيد الفكري والوجداني والروحي والجسدي في إطار مكاني واحد. برأيه "الحكاية لا يمكن أن تستغني عن الحكواتي". 

الحكواتي استفاد من التكنولوجيا والتطور على الدوام بدءًا من ظهور التدوين إلى طباعة الكتب التي استغلها الحكواتي لتوثيق وحفظ الحكايات ونشرها بشكل أوسع ووصولها إلى أكبر شريحة من الناس. فالعولمة سهلت الوصول سمعيًا وبصريًا لكافة الموروث الشفاهي والثقافي لشعوب العالم. والحكواتي تأقلم مع ظهور الطباعة والكتاب والراديو ومن ثم التلفزيون والإنترنت. لكن درويش يتخوف من "طغيان صيغة واحدة للحكاية على كل الصيغ الأخرى فتفقد غناها سيما إذا كان نشر الصيغة الواحدة على حساب الصيغ والأشكال الأخرى للحكاية" خصوصًا مع صعود الذكاء الاصطناعي القادر على سرد الحكايات وتحويل النصوص المكتوبة إلى نصوص مسموعة وهذا يعد تحدي كبير للحكواتيين! 

لكن لن يعني ذلك استبدال الحكواتي بالذكاء الاصطناعي وذلك لأن الحكواتي يغذي الحكاية بتجربته وأفكاره وروحه ونظرته للحياة وتشكيلاته الجسمانية وتعبيرات وجهه وعينيه وإحساسه وتواصله مع الحضور/الجمهور وهذا ما يفتقده الذكاء الاصطناعي. فقوة الحكاية في الشفاهية وحياتها في الشفاهية ووجودها في الشفاهية، والشفاهية معطى إنساني شامل وليس عملية ترديد ببغائية. 

لكن الحكاية كأي فن بحاجة إلى دعم الحكواتي وهذا غير متوفر في العالم العربي والدعم يقتصر على المنظمات غير الحكومية والأفراد. وكذلك حكايات البيوت تراجعت ويجب تشجيع الأهل لاستعادة ظاهرة الحكي داخل المنزل لأطفالهم. 

Failed to retrieve recommended articles. Please try again.