الفرات المتضائل: خلق فضاء عام للفنون البيئية في الموصل والأنبار

في الموصل ومناطق أخرى في الأنبار حيث تقع مدن مثل هيت والرمادي والفلوجة، يوجد مجتمع مدني نشط يتعامل مع القضايا البيئية من منظور فني، ويبدي حضورًا بيئيًا في سياق ما بعد الحرب، حيث يهيمن الجيش وقوات الأمن بشكل حصري تقريبًا على الفضاء العام. ويدل هذا على الشجاعة ونمو شعور جديد بالمسؤولية تجاه البيئة والطبيعة.

من شلوڤه صاما

البدء من الصفر

يتحدث أيوب ذنون، مؤسس مجموعة "الفن الأخضر" البيئية في الموصل عن بدايات نشاطه، فيقول: "بعد الحرب ضد داعش وكل تلك المعاناة التي شهدناها، أدركت بألم شديد مدى التدمير الذي أصاب مدينتنا وتراثها الثقافي، والعواقب الضارة لذلك. لم يتحمل أحد من الساسة المسؤولية تجاه الموصل". من خلال "الفن الأخضر"، وهو مشروع مدعوم من برنامج Guan Eden  التابع لمعهد جوته بالعراق، تم البدء في تنظيم أنشطة مختلفة في الفضاء العام بالموصل، بما في ذلك الحفلات الموسيقية. و يوضح أيوب: "في البداية لم يكن الأمر معتادًا بالنسبة للسكان، لكنهم صاروا يتقبلونه أكثر فأكثر. وقد تمكنا من خلال هذه الحفلات أيضًا من رفع الوعي البيئي لدى سكان الموصل". تختلف هذه العروض الموسيقية في الأماكن العامة عن الحفلات الموسيقية الكلاسيكية المعتادة، والتي تستهدف جمهورًا محدودًا بعينه. على العكس من ذلك، فإن هذه الحفلات الموسيقية لا تقتصر فقط على جمع الأشخاص الذين لولاها لما تمكنوا من الوصول إلى هذا النوع من الموسيقى، بل إنها تجعلهم كذلك يتواصلون مع أعضاء مؤسسة "الفن الأخضر". خلال هذا التواصل يتم أيضًا تناول البيئة كموضوع مركزي.

يتحدث أيضًا أعضاء "أصدقاء الفرات"، وهي شبكة من الفنانين في منطقة الأنبار، عن مقاربتهم الفنية لموضوع البيئة. بعد إحدى ورش العمل الأولى المقامة ضمن برنامجGuan Eden ، شرعت المجموعة في المعالجة الفنية وإعادة تدوير المواد والأشياء المختلفة التي كان الناس  في منطقتهم يعتبرونها في البداية من المخلفات. يحكي أحمد، من مجموعة "أصدقاء الفرات": "بدأنا في صنع طاولات من براميل الزيت والإطارات وأشجار النخيل. لقد اندهش الناس من قدرتنا على صنع شيء مفيد من القمامة".

مخاطبة النشء

يمثل النشء وخاصة أطفال المدارس فئة مستهدفة مهمة عندما يتعلق الأمر بالنشاط الفني البيئي. ويتم ذلك أولًا من خلال محاولة التواصل مع وزارة التربية والتعليم، لطلب الدعم للعمل في المدارس. وبحسب محمود، الناشط أيضًا في مجموعة "أصدقاء الفرات"، فإن الأمر يسير الآن بشكل جيد للغاية. تقام ورش عمل في المدارس، حيث يتم تعزيز الوعي البيئي لدى الطلاب والطالبات. ويتم على سبيل المثال، تناول الدور الضار بيئيًا للبلاستيك، وكيف يمكن التخلص من البلاستيك بالطرق البيئية الصحيحة.

يعتبر أحمد موسيقى الراب طريقة مختلفة لإثارة حماس الشباب بشأن البيئة، بالإضافة لكونها وسيلة للتعبير عن النفس بشكل فني. وبينما استخدم لنفسه اسمًا فنيًّا وهوMr. Sparky ، كتب وأخرج الفيديو الموسيقي لأغنية الراب "هيلا يا رمانة". يقول: "عندما كنت صغيراً، لم أكن أعرف ما هي موسيقى الراب، لكنني استمعت إلى الكثير من الأشرطة الغربية. لاحقًا، تعلمت المزيد حول هذا الموضوع ورأيت أنه في موسيقى الراب، على عكس الشعر، أنت أكثر حرية ولا يتعين عليك الالتزام بقالب معين. يمكنني أيضًا استخدام لغة الشارع والتعامل مع الحياة اليومية الفعلية. موسيقى الراب أقرب إلى الشباب وإلى جيلنا".
 

الحرب والعواقب البيئية: الفلوجة والفرات المتضائل

يجب فهم نشاط أيوب وأحمد ومحمود في سياقه الخاص بعد الحرب. لم يقتصر التأثير الكارثي للحروب المختلفة على البيئة فحسب، بل على الناس أيضًا، خاصة في مدينة مثل الفلوجة، التي تم قصفها بالقذائف المحتوية على اليورانيوم، خاصة خلال الغزو الأمريكي عام 2003. ومع التعرض للإشعاع بمعدل عشرين ضعف المعدل المعتاد، تظهر الدراسات أن معدلات الإصابة بالسرطان والعيوب الخلقية بين الأطفال تزداد في مدن مثل الفلوجة. وقد عانت منطقة الأنبار من مزيد من التفجيرات في عام 2014، خلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

بالإضافة إلى التعرض للإشعاع، كما يحكي محمود، فإن الحياة البيولوجية في نهر الفرات تكاد تكون ميّتة. من ناحية، يرجع ذلك إلى عدم سماح تركيا وإيران بتدفق سوى نسبة بسيطة من المياه جراء بناء السدود. ومن ناحية أخرى، تصب بعض مصانع البتروكيماويات نفاياتها في الماء دون أي تنظيم من الدولة. وفقًا لمحمود، الماء يعني الحياة: "كانت هذه الأنهار مهمة جدًا، حيث كانت أساسًا لمختلف الحضارات التاريخية. ونحن كمجتمع مدني، فهمنا ذلك وحققنا أكثر مما حققت الهيئات الحكومية ".

تظهر مجموعة "أصدقاء الفرات" في الأماكن العامة وتتحدث إلى الناس في المقاهي على ضفاف النهر عما يحدث عندما يتم تصريف المزيد والمزيد من النفايات في المياه.

فالأمر لا يتعلق بمعرفة الضرر البيئي فحسب، بل كذلك بالصلات الشخصية التي يتم بناؤها هنا. تتحقق هذه الروابط والاهتمام العام بالبيئة أيضًا في هذه المنطقة في الأنبار، وخاصة في هيت والرمادي، وذلك على شكل موسيقى ومسرحيات. فأولًا، يتم جذب الناس، وثانيًا يتم خلق وعي أكبر من خلال المعالجة الفنية للقضايا البيئية.

تحمل المسؤولية

يعتبر تحمل كل شخص المسؤولية تجاه مدينته ومنطقته أمرًا مهمًا، لا سيما في سياق تتجاهل فيه الدولة المصالح العامة للمدينة والمنطقة. تشرح أيوب مدى صعوبة الحصول على تصاريح لأنشطتها في المدينة، حتى لو كان الأمر يتعلق فقط بتنظيف الأماكن العامة. كل هذه المسائل هي مسؤوليات عادةً ما تتحملها الدولة. إلا أن حضور الدولة في الفضاء العام يتمثل بشكل رئيسي في تواجد القوات العسكرية والسلطات الأمنية المختلفة. وقد اشتد هذا الوضع خاصة بعد الحرب على داعش.

لذلك من الأهمية بمكان ألا تعزز مبادرات المجتمع المدني الوعي البيئي من خلال التمثيلات العامة والفنية فحسب، بل إن عليها أيضًا إقامة علاقات وشبكات ثقة من أجل خلق مسؤولية مشتركة عن القضايا البيئية. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، التعاون الناجح مع المخابز المحلية، التي صارت الآن تستخدم الأكياس الورقية بدلاً من الأكياس البلاستيكية. بالإضافة إلى ذلك، يحقق النشاط البيئي الفني جذب جمهور عريض للفن، كما يساهم في ازدياد قبول الممارسات الصديقة للبيئة في المجتمع، بالإضافة إلى تمكين الشباب من التعبير فنياً عن واقع حياتهم الذي يتأثر بشدة بالتلوث البيئي.

More Guan Eden Projects (youtube)