حوار مع البروفيسور أندريس ليپيك
البناء من أجل عالم أفضل؟

بروفيسور أندريس ليپيك
بروفيسور أندريس ليپيك | Goethe-Institut Kairo/Sandra Wolf

تمر العمارة المعاصرة بأزمة: فمن ناحية هناك ما يُسمى بـ "عمارة النجوم" المخصصة لشريحة محدودة من العملاء الأثرياء ذوي النفوذ السياسي. ومن ناحية أخرى تزخر المدن الكبرى المتنامية سريعًا في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا بكم هائل من الأبنية غير الرسمية التي نادرًا ما يشارك في بنائها مهندسون أو مهندسات على الإطلاق. إضافة إلى الأعداد المتزايدة من المواطنين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة حول العام. ولذا تُثار تساؤلات ملحة حول كيفية حل تلك المشكلة على نحو مستدام. حوار مع بروفيسور أندريس ليپيك حول العمارة الاجتماعية المستدامة.

بروفيسور ليپيك، درستم تاريخ الفن والآداب الألمانية بجامعة أوجسبورج وحصلتم بعد ذلك على الدكتوراه من مكتبة إرتسيانا عن النموذج المعماري في إيطاليا بين عامي ۱۳٥۳ و۱٥۰۰. إذن، فأنت لست بمهندس معماري. من أين نبع اهتمامك بالهندسة المعمارية؟

طالما شكَّل تاريخ العمارة جزءًا هامًا من تاريخ الفن، وقد جذب تاريخ العمارة على وجه الخصوص اهتمامي من البداية. للعمارة وظيفة محددة نسبيًا، أما فيما يتعلَّق بالفن، فإنه من الصعب دومًا التعرف على مغزاه. ما من شك أن للفن وظائف جمالية، وغيرها من الوظائف أيضًا. من السهل فهم واستيعاب واجتياز ومشاهدة العمارة من قبل الجميع. أما الفن، فدائمًا ما يستند إلى تحليلات وتفسيرات مختلفة، وما له من تحليل نهائي أبدًا. من جهة أخرى، فإن العمارة إما أنها تؤدي دورها أو لا. فالبيت على سبيل المثال، قد يتمتع بتصميم جميل ويفي بالغرض منه أيضًا. وإن لم يكن كذلك، فيمكننا تحديد الأسباب بمنتهى الوضوح. ولكنه من الأصعب كثيرًا تحديد الأسباب وراء جودة أو تفوق الأعمال الفنية.

يروج معرضكم الحالي "فكِّر عالميًا، ابني اجتماعيًا!" لعمارة اجتماعية مستدامة. ماذا تقصدون بهذا النمط المعماري بالتحديد ؟

أرى شخصيًا أن العمارة قد وصلت إلى نقطة تحول. فمن ناحية تتجلى التجاوزات القصوى للرأسمالية، في الصين ودبي على سبيل المثال، من خلال تلك المباني الشاهقة التي تُنَفَّذ من قبل هؤلاء المهندسين الذين يلقبون بـ "نجوم العمارة"، أو الملاعب الأوليمبية بأشكالها الأكثر تعقيدًا والتي تصل تكلفتها إلى مئات الملايين من الدولارات. وفي كثير من الأحيان تستضيف تلك الملاعب مباراة واحدة على الأكثر ويتوقف استخدامها بعد ذلك. يمكننا بالطبع مشاهدة تلك المباني من الخارج، إلا أنها تكون محاطة على الأرجح بمسافة أمنية بحيث تستحيل مشاهدتها من الداخل. ومن جهة أخرى يشهد العالم أجمع نزوح موجات هائلة من اللاجئين، فتلك الأحداث لا يقتصر تأثيرها على أوروبا فحسب. إضافة إلى التطورات شديدة التعقيد التي تشهدها أفريقيا وأمريكا اللاتينية والصين. حيث تنمو المدن في تلك المناطق على نحو مطرد مما يؤدي إلى عجز في تنفيذ عدد كافي من المباني، التي قد تكون ضرورية. مما يتسبب في زيادة أعداد سكان الأحياء الفقيرة الذين يفتقرون إلى وجود مبانٍ مجهَّزة فيتجهون إلى بناء مساكنهم باستخدام المواد المتوفرة لديهم. وفي هذا الصدد تلعب العمارة دورًا بارزًا. وهؤلاء المهندسون المعماريون الذين يتلقون تدريبهم لدينا لا يمكنهم أن يقولوا بكل بساطة: ’سننتظر حتى نتلقى تكليفًا‘. أجد أن الهندسة المعمارية بصدد مهمة اجتماعية كبيرة وأنا أسعى إلى تسليط الضوء عليها مرة أخرى.

كتبتم في إحدى المقالات التي يتضمنها كتالوج المعرض أن "متوسط المهندسين في يومنا هذا يعملون ويخططون لصالح ضئيلة جدًا من سكان العالم"، نظرًا لتفاقم ظاهرة المستوطنات العشوائية على نحو متزايد، تلك الظاهرة التي تسير جنبًا إلى جنب مع ظاهرة التوسع الحضري السريع. كيف تغيَّر دور المهندس المعماري في هذا الصدد؟

نرى أن المهندسين المعماريين يسعون على نحو متزايد إلى التوسيم، أي إلى تطوير علامة تجارية خاصة بهم. مثل دانيال ليبِسكيند، أو كانت زها حديد. لقد استطاع هؤلاء أن يطوروا لأنفسهم علامة تجارية خاصة بهم. فمثلما نتجه لشراء سيارة مرسيدس أو بورشه، فإننا نشتري منتج معماري من ماركة حديد أو ليبسكيند. وهذا التفكير الذي يتمحور حول اكتساب علامة تجارية يؤدي إلى انحصار المناقشات التي تتطرق إلى المحتوى، بل ويكتفون بالإشارة إلى أن هذا أو ذاك (المهندس المعماري) سيتولَّى المهمة. أعتقد أنه ينبغي علينا أن نتطلع مرة أخرى وعلى نحو متزايد إلى الهندسة المعمارية في سياق العمليات الاجتماعية. فالعمارة ليست موجَّهة نحو شخص أو جيل بعينه، بل إن الأبنية تبقى قائمة على مدى أربعة أو خمسة أجيال في المدن وفي الساحات العامة. إنها مسئولية جسيمة، تلك التي يأخذها المهندس المعماري على عاتقه. وأظن أننا قد وصلنا لمرحلة يتجه في إطارها العديد من المهندسين المعماريين إلى التعبير من خلال المشروعات الصغيرة، كتلك المقدمة في المعرض، عن انطلاقهم من تلقاء أنفسهم نحو إدراك تلك الظواهر الاجتماعية والانخراط والمشاركة فيها دون انتظار تكليف مسبق، بل ومشاركة المجتمع المدني في التفكير. وتتمخض تلك المشروعات في بعض الأحيان عن عمليات تفضي بدورها إلى مبانٍ، جرى تصميمها من منظور المجتمع المحلي والمواد المحلية، أي أنها تتبع استراتيجية التخطيط منأسفل إلى أعلىبدلًا من أعلى إلى أسفل.

دور الجديد المهندسين المعماريين

كما يضم المقال إشارة إلى ما يعرف باسم "استوديوهات التصميم والبناء" والتي يتم في إطارها تطوير حلول عملية جنبًا إلى جنب مع الطلاب. هل تظنون أن هذا النوع من الاستوديوهات سوف يلعب دورًا بارزًا في هذا الصدد؟

تلعب استوديوهات التصميم والبناء دورًا فائق الأهمية. يتساءل الطلاب على نحو متزايد في الوقت الراهن عن مغزى عملهم كمهندسين معماريين. يسعون إلى التعرف عن أهمية دورهم، هل هم مقدمو خدمات فحسب، أم أكثر من ذلك؟ وفي هذه الاستوديوهات يتعلم الطلاب أيضًا العمل اليدوي ويتواصلون ويتفاعلون أحيانًا مع عمال البناء في البلدان والثقافات الأخرى. مما يوفر لهم الفرصة للتعرف على مواد أخرى، كالخيزران والطين على سبيل المثال. فهي تجربة تختلف عن الدراسة الجامعية التي تعتمد على صناعة النماذج الكرتونية، تلك التي تجد طريقها إلى صناديق القمامة في نهاية الفصل الدراسي. أما في هذه الاستوديوهات، فيتعرفون فجأة على أهمية وجدوى عملهم، وعلى العنصر البشري أيضًا. حينما يقوم هؤلاء الطلاب ببناء دار حضانة في جنوب أفريقيا على سبيل المثال، ثم يرون الأطفال يأتون فيما بعد لاستخدام هذا المبنى على أرض الواقع. فهذا النوع من التجارب لا يتسنى لهم معايشته أثناء دراستهم. ومن ناحية أخرى، تقدم تلك الاستوديوهات شيئًا ملموسًا للمجتمعات الكائنة في تلك المناطق، حيث تنشأ من خلالها مبانٍ باقية، يتم متابعتها من قبل المجتمعات المحلية فيما بعد. إضافة إلى العمليات التعليمية والنقل المعرفي بين العمال المحليين والطلاب والأساتذة، والذي قد يؤدي بدوره إلى إنشاء شبكات ومشروعات أخرى. إن تلك الاستوديوهات تثبت للطلاب أن ثمة حاجة إليهم كبشر، وليس كمجرد مساعدين تنفيذيين في المنظمات الكبرى.

لقد تحدثتم عن الأبنية التي تكلٌّف تنفيذها مبالغ طائلة، ولم تعد تُستَخدَم، كإستاد الاوليمبياد في بكين بالصين أو إستاد كرة القدم في ماناوس بالبرازيل. هل ترون في هذا السياق أن المهندسين المعماريين يحملون على عاتقهم مسئوليات اجتماعية ومجتمعية؟

بكل تأكيد. فتأثير المباني سيمتد عبر مستقبل يصطبغ بصبغة جيل جديد، أيًا كان من أعطى التكليف ببناءه. ولذا، فعلى الرغم من عمل المهندس المعماري لصالح صاحب العمل في حقيقة الأمر؛ سواء تمثَّل في الحكومة الصينية أو بوتين أو في أية جهة أخرى؛ إلا أنه يأخذ في الوقت نفسه مهمة اجتماعية على عاتقه. وبالتالي فإنه يحق له أحيانًا أن يرفض تكليف ما وأن يقول ’كلا لن أتولى تلك المهمة‘. ومن المهندسين المعماريين من يفعل ذلك حقًا، كـ شتيفان بينيش على سبيل المثال. ففي بداية محاضراته كثيرًا ما يعرض شتيفان خريطة لحرية الصحافة في جميع أنحاء العالم ويقول بكل وضوح أنه لا يقبل أي تكليف من تلك الحكومات التي لا تتحدث الصحافة فيها بحرية عن عمارته. وهذا بيان. وعلى الرغم من ذلك يعد شتفيان بينيش واحدًا من أنجح المهندسين المعماريين على مستوى العالم. ينبغي على كل مهندس أن يعي تلك المكانة التي يتخلى عنها في المستقبل بقبوله تلك المهام. إن رِم كولهاس الذي أنشأ مبنى التلفزيون الحكومي كان يرى أن هذا المبنى من شأنه أن يساهم في عملية التحول الديمقراطي، إلا أن الصين لا تتمتع بحرية صحافة. ولذا فإن مثل تلك المباني التي يتم إنشائها لصالح الجهات الحكومية تعمل على تمجيد الوضع القائم حينها.

شاركت في صياغة "بيان لاوفِن – بيان من أجل ثقافة تصميم إنسانية". عم يتمحور هذا البيان؟

حين بدأت في إجراء بعض الأبحاث حول الهندسة المعمارية المستدامة قبل نحو ثمانية أعوام، اكتشفت عددًا كبيرًا من أصحاب المواقف الفردية مثل آنا هيرنيجر وفرانسيس كيريه. والعديد من هؤلاء يعملون على نحو مستقل وهم ناجحون في عملهم أيضًا، رغم أن شعبيتهم تقتصر على المستوى المحلي فحسب. حينما شاركنا في مؤتمر بفرانكفورت بمناسبة افتتاح معرض فكر عالميًا، ابني اجتماعيً!، تساءلنا عما يربط هؤلاء المهندسين المعماريين ببعضهم البعض، أي عن العامل المشترك بينهم. واكتشفنا أنه لا يوجد بيان أو نظرية أو حتى كتاب يمكنهم الاستناد إليه. وبناء على ذلك، قررنا صياغة بيان مشترك. وقمنا بصياغة هذا البيان جنبًا إلى جنب مع مجموعة من المهندسين المعماريين العالميين الذين التقينا بهم في لاوفن. وها قد أصبح بإمكان العالم أجمع أن يطلع على نتيجة هذا اللقاء على شبكة الإنترنت وكذا من خلال فيديو يشارك فيه نحو ٢٠ مهندسًا معماريًا عالميًا ومنسقًا وعميدًا من عمداء الكليات. كان من المهم أن نعلن عن وجود مبادئ مشتركة وعن قدرتنا على صياغتها أيضًا. يمكن للطلاب أن يستندوا إلى مثل هذا البيان على نحو أفضل من المشروعات الفردية.

إلى أي مدى يمكن للهندسة المعمارية أن تمثّل حلًا للمشكلات الاجتماعية؟

الهندسة المعمارية في حد ذاتها لا يمكنها أن تكون حلًا لتلك المشكلات. يمكنها فقط أن ترافق العمليات أو تحفزها وربما تعززها أيضًا. العمارة وحدها غير قادرة على إحداث تغيير اجتماعي، إلا أنها قادرة على إثارة العمليات الضخمة. إذا ما ألقينا نظرة على أعمال فرانسيس كيريه في بوركينا فاسو وآنا هينيجر في بنجلاديش، فسنرى أنهما يبدآن بالحلول المحلية، مما يثير اهتمام مجموعات وطوائف أخرى. وهو ما يتسبب بدوره في إطلاق العمليات، التي من شأنها أن تؤثر على الهياكل السياسية في إطار مرحلتها النهائية.

المشاركة و الاختيار المواد

تجسدون في معرضكم نقاطًا مختلفة من بينها عامل اختيار المواد. ما دور هذا العامل؟

المادة هي العامل الحاسم. وفي العديد من الحالات، لاسيما في البلدان النامية وتلك الضعيفة من الناحية الصناعية، يسود التصور أن المواد المستخدمة في العمارة تقتصر على الخرسانة المسلحة والزجاج فقط. وهذا ما روجت إليه الحداثة العالمية حتى تحول هذا التصور في نهاية المطاف إلى معيار قياسي. وأهمل البناء بالمواد المحلية كالخيزران والطين. لِمَ يتعين علينا استخدام مواد ملتهمة للطاقة كالخرسانة، بينما تتوافر لدينا مواد محلية جيدة كالحجر والطين؟ إنها مسألة ذات صلة بالبيئة والاقتصاد. كما أن استخدام المواد المحلية يوفر الموارد، ويمكن أيضًا معالجتها محليًا. مما يعمل على تعزيز الاقتصاد المحلي بدلًا من الصناعات الكبرى. ينبغي مراعاة الأبعاد الاجتماعية للمادة. ففي أفريقيا على سبيل المثال، حيث تتوافر الأيدي العاملة قليلة التكلفة وكذا الطين بكثرة، يمكن خلق فرص عمل من خلال العمارة الطينية لإمكانية إنتاج الطين محليًا. أما الخرسانة فينبغي استيرادها من الخارج، وهو ما لن يعود بأية فائدة على السكان المحليين. إلا أن العمل على استعادة اعتبار المواد المحلية أمر في غاية الصعوبة. حيث يُنظَر إلى الطين باعتباره مادة غير متطورة وعفا عليها الزمن. وعلى ذلك يتجه المسار نحو الغرب. وأوروبا أيضًا بحاجة إلى أمثلة للتحرر من النزعة الاستعمارية التي تقضي بأن ’الطين مادة جيدة ولكنها مناسبة للعالم الثالث فقط وليس لنا‘ والبرهنة على إمكانية استخدام تلك المواد في السياق الأوروبي أيضًا. وهذا ما أثبته كل من مارتين راوخ وآنا هيرنيجر. فبمشاركة من مارتين راوخ قامت شركة ريكولة هيرتسوج ودو مويرون مؤخرًا، وهي إحدى نجوم العمارة، ببناء مخزن ضخم للأعشاب في سويسرا. ولهذا الغرض تعيَّن تغيير قوانين البناء، لعدم وجود أية قوانين خاصة بالأبنية الطينية. فقط عندما ينعكس تعزيز استخدام تلك المواد الطبيعية على عملية وضع القوانين، سيتم إدراك تلك المواد على نحو مختلف.

إلى جانب المواد والثقافة تعد المشاركة إحدى أهم محاور معرضكم، ما مدى أهمية دور المشاركة في إطار الهندسة المعمارية المستدامة؟

المشاركة أداة من شأنها أن تلعب دورًا حاسمًا في إطار العديد من العمليات ذات الصلة بالهندسة المعمارية. لا يمكن ضمان النجاح إلا إذا ما تم إشراك المجتمع المحلي، لاسيما في المدارس ودور الحضانة والمراكز الأهلية وغيرها من المباني المشابهة. كما تزخر المستوطنات غير الرسمية، كالأحياء الفقيرة، بكثافة اجتماعية ضخمة. فحينما يأتي شخص من خارج تلك الأحياء حاملًا المقياس ويبدأ بكل بساطة في تشييد مبنى ما، فهو دائمًا ما يتسبب في قطع الشبكات الاجتماعية وفي إثارة المشكلات أيضًا. أما إذا ما اتجهنا من البداية إلى التعاون مع المجتمعات المحلية، فإننا سننجح في خلق مساحة للتفاوض.يمكننا على سبيل المثال أن نطلب من شخص ما الانتقال إلى منطقة أخرى لأننا كمجتمع مدني نرغب في تنفيذ المشروع. وبالتالي يُنَفذ المشروع على المدى الطويل وعلى نحو جوهري. ما من شك أنه لا يمكن بناء المستشفيات أو المطارات على نحو تشاركي. تلك مهمة الدولة. فالهندسة المعمارية التشاركية ليست حلًا سحريًا شاملًا. بل هي مخاطرة تتطلب قدرًا أكبر بكثير من الوقت والمجهود. إضافة إلى بطء عملية صنع القرار، إذ يتعين اتخاذ القرارات جنبًا إلى جنب مع المجتمع المدني. إنها عملية معقدة. والعديد من المهندسين المعماريين يتجنبونها، لأنهم لم يعتادوا ولم يتدربوا عليها. جدير بالذكر أن عنصر المشاركة يلعب دورًا بارزًا لاسيما في إطار المشروعات التي تهدف إلى تطوير المجتمعات المحلية.

إذن، فالمشاركة نوع من العمارة الديمقراطية؟

يمكننا صياغة الأمر على هذا النحو. إلا أنه في إطار تلك العملية يعتبر المهندس المعماري وسيطًا أكثر منه مخططًا. لا شك أنه يتعين عليه توجيه العمليات التشاركية أيضًا. فهذا لن يحدث من تلقاء نفسه.من جهة أخرى نجد أن كافة المجتمعات المدنية المجسدة في المعرض لم تبادر بالتفكير في بناء مدرسة من الطين على سبيل المثال أو طلب مهندس لهذا الغرض. بل يأتي هناك من يأتي ويضع حجر الأساس ويبدأ في إثارة العمليات، ليتم بعد ذلك اتباع مبدأ المشاركة. وفي الحالات النموذجية فقط يستمر العمل بمبدأ المشاركة للنهاية. تلك هي الحالات النموذجية، التي لا يتسنى تطبيقها في كل مكان. فتطبيق هذا المبدأ يكون أكثر صعوبة في مدينة كالقاهرة على سبيل المثال. وواحدة من أبرز تلك الحالات النموذجية تتمثل في ذلك المشروع المشترك الذي أقيم في مقاطعة كيبيرا (كينيا)، وهي إحدى أكبر الأحياء الفقيرة بأفريقيا. جنبًا إلى جنب مع السكان المحليين قام طلاب كلية الدراسات العليا للتصميم بجامعة هارفارد في عام بتنظيف منطقة كانت مغطاة بالقمامة ودائمًا ما كانت تتسبب في مشكلات كبيرة في موسم الأمطار. وبعد أن تم تنظيف المكان وتحوَّل إلى مساحة شاغرة، أقيم فيه أول مشروع للساحات العامة في كيبيرا والذي اجتذب ثلاثة مشروعات متابعة أخرى، من بينها محطة مياه ومدرسة ابتدائية ومقهى إنترنت. ويُجرَى تخطيط مشروعين آخرين في الوقت الراهن.

إجراءات/ مبادرات محلية تعود بالنفع على الجميع في النهاية، أي أنها مساهمة عملية في الحفاظ على عالمنا؟

أعتقد أننا نعيش في عصر، لا نثق في أفكاره السياسية التي تعدنا بعالم أفضل. سواء كانت أفكارًا سياسية من القرن الـ ١٩ أو الـ ٢٠. ها نحن نرى أن كافة تلك الأنظمة مشوبة بالعيوب أو منهارة بالفعل منذ زمن طويل. وأصبحنا في الوقت الراهن لا نثق في مثل هذه الأنظمة السياسية الكبرى وفي الهندسة المعمارية التي تستند إليها. من جهة أخرى يسود الاعتقاد بأننا يمكننا أن نحدث تغييرًا من خلال المبادرات والعمليات المحلية، وليس من خلال الحلول الجماعية ذات الدوافع الأيديولوجية. فهي لا تجدي على المدى الطويل. ينبغي التفكير وكذا إيجاد الحلول محليًا. فمن الممكن أن تتمثل تلك الحلول في إنجازات تترجم محليًا، ولكنها لا تكون طبق الأصل أبدًا. فعلى سبيل المثال، كانت هناك محاولات لموائمة نموذج ناطحات السحاب محليًا في جميع أنحاء العالم. إلا أن الأمر تمثَّل في تطبيق حلًا قياسيًا فقط، وهو ما لم يكن في مصلحة البشر على الدوام. الحلول القياسية أسهل دومًا من الحلول المحلية، وأشعر أنها تنتشر على نحو متزايد. ولكنني تلقيت اتصالات من أشخاص من جميع أنحاء العالم ممن لديهم اهتمام بالهندسة المعمارية المستدامة. وعلى الرغم من أنني أفتقر إلى فكرة محددة، ومن معرفتي بأن بيان لاوفن لن يغير من العالم، إلا أنني أتمنى أن يستند المزيد والمزيد من الناس إلى العمليات المحلية وأن ينعكس الأمر على السياسة أيضًا.

هل يمكننا النظر إلى معرض ’فكر عالميًا، ابني اجتماعيًا!‘ باعتباره نوعًا من الحركات المناهضة للعولمة التي تعمل على توحيد العديد من الاتجاهات وتطبيق معيار قياسي واحد عليها جميعًا؟

بكل تأكيد! يمكننا مقارنته بحركة الوجبات البطيئة . والتي تناهض الوجبات السريعة المعيارية، ذات الشكل والمذاق الموحد في جميع الأماكن ولا تختلف إلا من حيث الأسعار، والاتجاه بدلًا من ذلك إلى المنتجات المحلية من خلال تعزيز الإنتاج المحلي وكذا الأسواق والمعرفة المحلية. وتنطوي تلك الحركة على بعد ثقافي أيضًا. وبطريقة ما فإن هذا هو ما نسعى إلى صياغته من خلال معرض فكر عالميًا، ابني اجتماعيًا!. لازالت بعض المناطق تزخر بتقاليد جيدة، حتى وإن لم تجذب انتباه صناعة البناء والخرسانة. فالقائمين على تلك الصناعات يسعون إلى التكسب دون التفكير في العواقب. لقد أثارت حركةالوجبات البطيئة اعتزازًا بخلق هوية إقليمية من خلال المنتجات المحلية، إلا أنني أعتقد أن الهندسة المعمارية لم تصل لهذا الحد بعد. فالأمر يستغرق وقتًا أطول، أن ندرك فجأة أن تلك المواد التي من شأننا أن نفتخر بها هي بالتحديد تلك التي ننتجها بأنفسنا وفي بلادنا.
 

درس أندريس ليپيك تاريخ الفن وعلم اللغة والأدب الألماني الحديث بجامعتي أوجسبورج وميونخ. وبعد أن حصل على درجة الدكتوراه بدأ في عام ۱۹۹٤ في مباشرة عمله العلمي والتنسيقي في المتاحف الحكومية ببرلين وفي المعرض القومي الحديث. وفي عام ۲۰۰۷ انتقل بدوره كمنسق إلى قسم العمارة والتصميم بمتحف الفن الحديث في نيويورك حيث أحدث ضجة كبيرة من خلال معرض مقياس صغير – تغيير كبير. تصميمات معمارية جديدة حول المشاركة الاجتماعية (۲۰۱۰). وفي إطار حصوله على زمالة لويب من كلية الدراسات العليا للتصميم بجامعة هارفارد أجرى ليپيك أبحثًا حول تاريخ ونظرية المشاركة الاجتماعية في العمارة إبان القرن الـ ۲۰. وفي عام ۲۰۱۲ تم تعيينه أستاذًا لتاريخ العمارة والممارسة التنسيقية بجامعة ميونخ التقنية وهو يشغل في الوقت نفسه منصب مدير متحف العمارة بجامعة ميونخ التقنية. أصدر ليپيك عدة مقالات وكتب، كما أنه عضو بالمجلس الاستشاري للفن التشكيلي بمعهد جوته.

 

معرض فكِّر عالميًا، ابني اجتماعيًا! - عمارة لعالم أفضل يتمحور حول المسؤولية الاجتماعية للهندسة المعمارية المعاصرة. وُضِع مفهوم هذا المعرض من قبل مركز الهندسة المعمارية بفيينا والمتحف الألماني للهندسة المعمارية.