سيزيف محمد عبلة / ياسر سلطان
مُعاودة الصعود بلا هوادة
إن معرض عبلة الذي يستضيفه معهد جوته القاهرة، ليس مجرد معرض فني، فهو يقدم إطلالة على واحدة من أهم التجارب البصرية في مصر. يختزل المعرض مسيرة مكللة بالنجاح والتحدي. لا يعني ذلك أن مسيرة عبلة خالية من العثرات، فبين الانعطافات التي مرت بها تجربته الممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي كان لابد من وجود هذه العثرات، غير أن طبيعته المتمردة علمته معاودة النهوض والإصرار على الفعل والتحدي.
من ياسر سلطان
لا ريب أن طبيعة شخصية عبلة المتمردة على التكرار والمتخوفة دوماً من الجمود كان لها دور في تشكيل تجربته الفنية، غير أن السبب المباشر الذي شكّل ملامح هذه التجربة وأمدها بكل هذه الطاقة المُتجددة يكمن غالباً في اشتباكه وإدراكه المبكر لطبيعة الممارسات البصرية المعاصرة، وما تتيحه هذه الطبيعة من انتقال سلس بين وسائط بصرية متنوعة، أو ربما الجمع فيما بينها. في تجربته الممتدة لا يقف عبلة مكبلاً بالوسيط أو الخامة، كما لم يترك نفسه للاستغراق في جماليات فارغة من المضمون، فطوال تجربته تلك دأب عبلة على توظيف فنه للتفاعل الدائم مع المجتمع من حوله والاشتباك مع قضاياه المُلحّة.
لعل أحد تجليات الفنون المعاصرة يتمثل في تغير نظرتنا للممارسة الفنية وطبيعتها وأهدافهاإذ بات يُنظر إليها كوسيلة لطرح التساؤلات والاشتباك مع القضاياالإشكاليةالتي تخص المجتمع والإنسانية بشكل عام. لا شك أن هذه السمات التي تتمتع بها الممارسات المُعاصرة تشكل طبيعة التجربة الإبداعية للفنان المصري محمد عبلة.
من هنا تأتي أهمية هذا المعرض الذي نظمه المركز الثقافي الألماني معهد جوتة القاهرة تحت عنوان "سيزيف" ونسقته نورا عبلة ، إذ يلقي هذا المعرض الضوء بشكل مكثف وواضح على تطور هذه التجربة ويتتبع مراحل تطورها، كما يلفت الانتباه إلى عديد من منعطفاتها. يُشير هذا المعرض في جانب منه إلى عدد كبير من التجارب الفنية التي خاضها الفنان منذ تخرجه في الفنون الجميلة عام ١٩٧٧. لا يقتصر هذا العرض على التجارب الفنية وحدها، فالمعرض يسلط الضوء أيضاً على مسيرة الفنان عبر أدوات وعناصر مختلفة، ويوضح كيف كان مشتبكاً بالفعل مع المجتمع وأزماته، هذه الأزمات التي اقترب بعضها من دائرته الشخصية ومسه بعضها الآخر على نحو مباشر.
بين هذه القضايا تبرز على سبيل المثال أزمة جزيرة القرصاية، وهي جزيرة في نيل القاهرة اختارها الفنان لتكون مقراً لمحترفه، وقد كافح عبلة مع سكان هذه الجزيرة كي لا يتم تهجيرهم منها لصالح مشروع استثماري كانت الدولة عازمة على إنشائه. كانت هذه القضية مثار جدل ونقاش مُجتمعي في حينها، وساهم محمد عبلة بجانب كبير من الزخم الإعلامي والشعبي الذي أثير من حولها. بعض قصاصات الصحف التي يعرضها عبلة تسلط الضوء على هذه القضية، وكيف كان عبلة في بؤرة أحداثها. إن الإشارة إلي قضية القُرصاية في هذا المعرض ليس من قبيل التباهي بنجاح هذه الجهود، بقدر ما هو إشارة إلى دور الفنان وواجبه الفعلي تجاه مجتمعه وقضاياه وعدم انفصاله عن هذه القضايا. فالمؤكد هنا أن الفن ليس مجرد ممارسة جمالية أو فعل إبداعي بقدر ما هو اشتباك حقيقي مع الواقع وأزماته، وهي قناعة راسخة في وجدان عبلة بلا شك، والمتابع لتجربة عبلة يدرك جيداً المردود المباشر والواضح لهذه القناعة في أعماله.
يضم المعرض نماذج منتتقاة من أعمال محمد عبلة وتجاربه ومحاولاته الفنية الدؤوبة لخوض مغامرات مع خامات ووسائط مختتلفة غير الرسم أو التصوير، وهما الوسيطين الأبرز في تجربته البصرية. حتى داخل دائرة ممارسته للرسم والتصوير لم يكف عبلة عن التجريب أو المغامرة، فقد ظل ينتقل في سلاسة بين أساليب ومواضيع مختلفة، ويغير من طريقة عمله ومعالجاته للمساحة وبنائه التصويري من وقت لآخر. يدفعنا المعرض كذلك في جانب منه إلى تتبع بداية اكتشاف محمد عبلة للصورة الفوتوغرافية وكيف استطاع توظيفها داخل عمله كوسيط بصري مهم ومؤثر. بدأت علاقة محمد عبلة بالصورة الفوتوغرافية كما يقول منذ اللحظة التي احترق فيها محترفه في مبنى المسافر خانة. حدث ذلك عام ١٩٩٨، وكان حريقاً كبيراً تسبب في دمار هذا المبنى التاريخي بالكامل. حينها أمسك عبلة بكاميرته وراح يلتقط صوراً لبقايا الحريق، وهو مشهد ما زال عالق في ذهنه ويتذكره بكل أسى.
منذ هذه اللحظة الأليمة بدأ عبلة الانتباه إلى أهمية الصورة الفوتوغرافية، ومن هنا أيضاً بدأت علاقة محمد عبلة بالفوتوغرافيا كآداة للتسجيل كما يقول.
أخذ اهتمام الفنان بهذا الوسيط يتعمق مع الوقت، حتى أنه تعامل معه كبديل لرسم الاسكتشات السريعة، فالصورة الفوتوغرافية قادرة على تجميد اللحظة بكل تفاصيلها على نحو أفضل كما يقول، وهي الأقدر كذلك على استيعاب التعقيدات البصرية للمدينة وشوارعها، هذه المدينة التي اتسع شغفه بها وبتفاصيلها مع الوقت. تداخلت الفوتوغرافيا واشتبكت مع تجارب عبلة اللاحقة لتصبح أحد المكونات الأساسية لملامح تجربته الفنية.
تشي هذه التجربة الممتدة للفنان محمد عبلة مع الصورة الفوتوغرافية بالكثير، فهي دالة في جانب منها على طبيعة شخصيته وقدرته على التعامل مع العراقيل والعقبات وتحويلها إلى انعطافات جديدة في مسيرته الفنية، والأهم كذلك أنها تشي باشتباكه المستمر مع الأحداث الاجتماعية المُلحّة والتعامل معها بصرياً.
سيزيف
نأتي هنا إلى دلالة اختيار اسم المعرض الذي يستضيفه معهد جوته.. سيزيف، هذا البطل الأسطوري الذي يُعيد رفع الصخرة إلى قمة الجبل مرات ومرات بلا كلل. الاسم هنا له دلالة أكيدة ومُشار إليها في تقديم المعرض حول طبيعة تجربة عبلة وكيف استطاع أن يشكل أسلوبه وينوع تجربته من وقت لآخر على نحو مستمر وملفت في حقيقة الأمر. إلى جانب هذا يشير هذا الإسم (سيزيف) إلى واحدة من التجارب المهمة التي خاضها محمد عبلة أثناء إقامته في ألمانيا. فأثناء وجوده هناك سمع الفنان عن مسابقة لتصميم تمثال ميداني دعت لهاإحدى البلديات هناك، فتقدم لهذه المسابقة، وفوجىء بحصوله على المركز الأول، غير أن البعض احتج على ذلك كونه غير ألماني.فقرر رئيس مجلس المدينة إعادة التحكيم مرة أخرى، فحصل العمل الذي تقدم به على أعلى الأصوات أيضاً، فعاود المحتجون رفضهم، واضطر رئيس المدينة إلى عمل معرض يتم فيه أخذ الأصوات من قبل الجمهور من دون أن توضع أي أسماء على الأعمال، ليحظي عمله أيضاً بالنسبة الأكبر من أصوات الجمهور. أقيم التمثال بالفعل وما يزال منصوباً حتى اليوم في مدينة فالسرودة شمال ألمانيا، وهو من خامتي البرونز الحجر.
إن معرض عبلة الذي يستضيفه معهد جوته القاهرة، ليس مجرد معرض فني، فهو يقدم إطلالة على واحدة من أهم التجارب البصرية في مصر. يختزل المعرض مسيرة مكللة بالنجاح والتحدي. لا يعني ذلك أن مسيرة عبلة خالية من العثرات، فبين الانعطافات التي مرت بها تجربته الممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي كان لابد من وجود هذه العثرات، غير أن طبيعته المتمردة علمته معاودة النهوض والإصرار على الفعل والتحدي.