ذكريات
"كان كافكا أيضًا يتحدث الألمانية"
أصبت بالسل في طفولتي. كانت الطبيبة التي اصطحبتني أمي إليها امرأة قصيرة القامة جدًا، تكاد تكون قزمة، وعندما وقفنا قبالة بعضنا بعض في غرفة الفحص، كنت أفوقها طولاً. لذا تسلقت فوق كرسي لتستمع إلى رئتيّ بالسماعة الطبية.
عندما سمعت أمي الطبيبة القصيرة تنطق كلمة السل، لم تنبس ببنت شفة وظلت تنظر إلى الأرض طويلاً وكأنها رأت حيوانًا صغيرًا سقط على ظهره ولم يستطع أن يستدير. أُعطوني حقن البنسلين وكان علي أن أتناول دواء الليبرتان. جلبوا زجاجة كبيرة منه إلى المنزل، لم أحب تلك الزجاجة. زيت كبد الحوت هذا. كان من الصعب ابتلاعه. دست أمي هذه الزجاجة الكبيرة، زجاجة زيت كبد الحوت في يد وملعقة في اليد الأخرى. وبينما كنت أبتلعه بصعوبة مع قطعة من البرتقال، نظرت أمي إلى الأرض مرة أخرى لفترة طويلة، وكأنها رأت حيوانًا صغيرًا سقط على ظهره ولم يستطع الاستدارة ومن ثم لا يمكن إنقاذه. ظننتُ أنني سأموت بسبب داء السل هذا، وأنني سأذهب إلى الجنة مباشرة، لأنني لم أكن قد ارتكبت ذنوبًا بعد لكوني طفلة.
سألت جدتي التي أحببتها كثيرًا: ”هل ستذهبين إلى الجنة أنتِ أيضًا يا جدتي؟ ” ’نعم‘. ”هل ستذهب أمي إلى الجنة يا جدتي؟ ” ’نعم‘. ”هل سيذهب والدي إلى الجنة يا جدتي؟“ ’نعم‘ ”هل سيذهب إخوتي إلى الجنة يا جدتي؟“ ’نعم‘. ”جدتي، هل سيذهب الحوت إلى الجنة أيضاً؟“ قالت جدتي نعم، فبدأت أبكي وأقول: ”لا أريد أن أذهب إلى الجنة يا جدتي“. قال والدي، الذي كان قد سمع هذا الحديث: ”أنتم تزيدون ارتفاع حمى هذه الطفلة بحديثكم عن الذهاب إلى الجنة، عليها أن تشرب النبيذ الأحمر، فالنبيذ الأحمر يجعل دمها أحمر“. ومنذ ذاك اليوم، كان أبي يجلس بجانبي على العشاء ويسقيني النبيذ الأحمر. في بعض الأمسيات، عندما كنت أجد النبيذ الأحمر شديد المرارة، كان يقول: ”دواء الدراويش“، ويقرص أنفي بإصبعين ويصب النبيذ الأحمر في فمي مضيفًا: ”يقولون أنه يفيد رئتيك“. كان البنسلين، وزيت كبد الحوت، والنبيذ الأحمر، كلها أمور تمثل عالمًا جديدًا بالنسبة لي، ثم ظهر اسم كافكا.
كنت أجلس ذات يوم أمام باب بيتنا في الحديقة الصغيرة تحت شجرة التوت. وبين الحين والآخر كانت تسقط ثمرة توت إما على رأسي أو في حِجري بينما أنظر إلى الأطفال الآخرين وهم يلعبون معًا في الحارة. إذ لم يكن مسموحًا لي بالانضمام إليهم بسبب خطورة العدوى بمرض السل. وكثيرًا ما كان يأتي إلى حارتنا طالب شاب يبيع مناديل من القماش مطبوع عليها وجه أتاتورك. كان اسمه أركاداش، أي "صديق" ويُقال أن أركاداش كان شاعرًا وأنه مجنون.
كان كل مرة يأتي فيها يتمايل على ساق واحدة إلى الأمام وإلى الخلف في الحارة وهو يقرأ قصائد شعر بصوت عالٍ. ثم جاء إلى حديقتنا وأكل بعض الثمرات من شجرة التوت وسألني: ”لماذا لا تلعبين مع أصدقائك“؟ فقلت: ”أنا مصابة بالسل“. فقال لي أركاداش: "من أين لكِ بهذا المرض الراقي؟" كان يعني أن السل مرض النبلاء أو أن الشعراء هم من يصابون بالسل وكذا الأشخاص الذين سقطوا في نار العشق. قال: "إن الشعراء أناس تركوا أنفسهم يحترقون بنار هذا العالم الكاذب أكثر من الآخرين." ثم قال: "كان هناك قديمًا شاعر عظيم، اسمه فرانتس كافكا، وكان مصابًا بالسل، وقد ترك نفسه يحترق بنار هذا العالم اللعين أكثر من الأناس الآخرين. مات كافكا بداء السل، ولكن آنذاك لم يكن الطب متقدمًا كما هو الحال اليوم. أنتِ لن تموتين. في أحد كتبه، استيقظ ذات صباح وأراد أن ينهض ليذهب إلى العمل فرأى أنه قد تحول إلى خنفساء كبيرة. كان والده مثقلاً بديون كثيرة، إلا أن الابن لم يستطع أن يذهب إلى العمل وهو على هيئة خنفساء فبقي في غرفته. كان صاحب العمل رجلاً شريرًا. جاء صاحب العمل الشرير هذا إليه في البيت لكنه رآه خنفساء كبيرة ففر هاربًا. لم يعد مسموحًا له بمغادرة غرفته، ورماه أبوه بالتفاح فأصابته واحدة في ظهره، وفي النهاية مات المسكين. آه، يالها من قصة حزينة للغاية."
سألني أركاداش: ”كم عمرِك؟“ ”11. “ ”سرعان ما ستتمكنين من قراءتها. “ ثم أخذ منديلاً من المطبوع عليهم وجه أتاتورك وكتب عليه "فرانتس كافكا التحول"، وأعطاني إياه. ثم هزّ أركاداش رأسه وقال: ”سأل الأب الشرير ابنه الذي تحول إلى خنفساء: “يا بني، ماذا عسانا نفعل؟ “ قال: ”’لنذهب إلى كافكاوانا.“
ظل كافكا بالنسبة لي شاعرًا ترك نفسه ليحترق بنار هذه العالم أكثر من أناس آخرين، وظللت أعتقد أن السل مرض النبلاء، حتى صرت أكبر سنًا وقرأت لكافكا بنفسي. في سني هذه كنت أعتقد أن النبلاء هم الأمراء والأميرات. وكنت أعتقد كذلك أن هؤلاء الناس لا يتبولون أو يتغوطون مثلنا. وأنهم ليس لديهم تلك الثقوب التي لدينا. وكنت أعتقد أن السل مرض النبلاء لأنه لا يظهر على المؤخرة بل على الظهر.
ثم سمعت عن كافكا مرة أخرى وأنا في سن البلوغ. إذ كان أخي حينها على وشك أداء امتحان الثانوية الألمانية وكان يأتي إلى البيت من وقت لآخر مع مدرس الأدب خاصته ومع صديقه أليكان. كانوا يجلسون في غرفته ليحتسوا الراكي ويتحدثون عن الشعراء ويقرأون القصائد بصوتٍ عالٍ. كثيرًا ما كنت أجلس معهم وأستمع إليهم. وذات مرة كانوا يتحدثون عن كافكا، فقال مدرس الأدب: "لا يختلف حال المثقفين الأتراك عن شخصية جوزيف ك. في "محاكمة" كافكا. إذ لا يمكن فهم كافكا في أي بلد آخر أفضل من تركيا. فنحن نعيش هنا معزولين عن العالم، بلا أمل. محكوم علينا بالخسارة منذ البداية لأننا نقاتل هنا ضد نظام لا يمكن هزيمته. نحن أيضًا وحيدون، نعيش هنا في ”مستعمرة عقاب كافكا ." قال أليكان: ”أنا سعيد بشيء واحد لا يمكن لأحد أن يسعد لأجله، أنا سعيد لأن كافكا مات بداء السل ولم يُقتل على أيدي النازيين في معسكرات الاعتقال مثل أخته ومثل ميلينا“.
قرأت كافكا للمرة الأولى عندما كنت في العشرين من عمري، في برلين الغربية عام 1967. كنت قد تعلمت اللغة الألمانية في معهد جوته وجئت إلى برلين الغربية. وما أن وصلت إلى محطة حديقة الحيوان، رأيت رجلًا على الأرض وقد غطى نفسه ببعض الصحف. قرأت العنوان الرئيسي: حسنًا، لا تطلقوا النار على الرأس. ذكرت إحدى الصحف أن قوات أمن مسلحة لحماية المصانع كانت قد أنشئت بالفعل في العديد من كُبريات الشركات الألمانية. كان الرجل الذي غطى نفسه بهذه الجرائد قد تقيأ بجواره. سمعت أصوات الطلاب المتظاهرين في الشارع الرئيسي وهم يهتفون: ”القتلة خارج فيتنام هو-هو-هو-تشي-منه“. في وقت ما، اختلطت صافرات الشرطة مع هذه العبارات، ثم سمعت آلاف الأشخاص يصفرون.
وجدت وظيفة في شركة سيمنز كمترجمة شفهية في دار إيواء للعمال الوافدين. كنتُ أترجم للعمال ما يقوله رئيس العمال ، وعندما يمرضون أصطحبهم إلى الطبيب. كانت مديرة الدار يونانية، واسمها إيكاتريني وكانت اشتراكية هربت إلى برلين بعد الانقلاب العسكري اليوناني. كانت تتصل دائمًا باليونان في المساء لأنها خائفة على عائلتها. كانت تأتي إلى غرفتي وتقول: ”لقد تحدثت إلى أختي وزوج أختي“. ثم ترمش برموشها عدة مرات وتنتظر عند الباب حتى أرمش أنا أيضًا. ثم تقول: ”سأذهب الآن إلى كافكا وكامو خاصتي“.
أحببت إيكاتريني كثيرًا. وكانت قد أهدتني كتابًا لكافكا باللغة الألمانية، يحتوي على صورة فوتوغرافية كبيرة له. وبينما كنت أقرأ في الكتاب كنت أطالع بين الحين والآخر وجه كافكا وأتخيل رجلاً جميلاً نحيلاً بشعر أسود يرقص بخطوات الرقص النقري. وفي المساء عند إطفاء الأنوار بالمكتب تقول لي إيكاتريني: "دعينا نذهب إلى كافكاوانا." لتذهب هي إلى كافكاها. بينما أذهب أنا إلى كافكاي.
كانت غرفة المترجمة الشفهية تشبه غرفة الدير - إذ تحتوي على سرير صغير وطاولة وكرسي ومصباح أرضي وخزانة صغيرة تستند على الحائط، بينما كان الطريق السريع في الخارج، حيث تمر السيارات مسرعة، فقط عندما لم تكن هناك سيارة مارة كنت أسمع إيكاتريني وهي تقلب صفحة من كتاب كافكا في غرفتها المجاورة.
لطالما كنت أدافع عن نفسي مستعينة بكافكا في بعض الأحيان. أذكر منها مرة في باريس نهاية عام 1967 في مترو متحرك، حيث وقف في مواجهتي شاب ألماني فسألته باللغة الألمانية عن المحطة التالية، فقال بصوت منخفض: "لا تتحدثي الألمانية رجاءًا." "لماذا؟" "لأنها لغة النازيين وأنا أشعر بالخجل من الفرنسيين." فقلت له: "لكن كافكا أيضًا كان يتحدث الألمانية."
ومرة أخرى في مدينة ميونيخ الألمانية: حيث دعاني شابان ألمانيان ودودان للقراءة من روايتي الأولى "الحياة قافلة ارتحال". وبعد الانتهاء من جلسة القراءة قال لي أحد الرجال: " لا أفهم كيف يمكنك كتابة هذه الكلمات الشعرية الرائعة باللغة الألمانية، أي لغة جوبلز وهتلر؟" فأجبته قائلة: "لكن كافكا أيضًا كان يكتب بالألمانية." ثم استشهدت ببعض العبارات من رواية كافكا "القلعة" مثل: "وقف كـ. مرة أخرى ساكنًا، كما لو كان يتمتع بقوة أكبر على الحكم عند الوقوف ساكنًا... القلعة هناك بالأعلى، غريبة ومظلمة بالفعل والتي كان كـ. يأمل في الوصول إليها اليوم بعد، ابتعدت ثانيةً."
نُشر هذا النص للمرة الأول يوم 23 أبريل 2024 في جريدة زوددويتشه تسايتونج الألمانية. وقد تُرجم لينشر على بوابة معهد حوته بموافقة ودودة من الكاتبة إمينة سيفجي أوزدامار.