آثار التراث الألماني في لبنان
"التزييف" – الفيلم والواقع يندمجان في بيروت
عام 1980 وجد المخرج الألماني نفسه عند مفترق طريق: فهو الألماني الأول الذي فاز لتوّه بجائزة "أوسكار" عن فئة "أفضل فيلم ناطق باللغة الأجنبية" لتصويره فيلم "طبل الصفيح" وبذلك فإن مستقبلاً مهنياً ناجحاً في هوليوود بات وشيكاً له. لكنه يتذكر، بأن ذلك كان سيؤدي إلى نهاية حريته. للإفلات من عالم هوليوود، وربما أيضاً للتأكد من حريته الخاصة، اختار المخرج الألماني مضموناً لا يتلاءم مع هوليوود.
قام شلوندورف بتصوير رواية "التزييف" للكاتب نيكولاس بورن التي تدور حول صحفي الحرب لاشِن الذي يفرّ من مشاكله الزوجية إلى لبنان كي يبلّغ عن الحرب المستعرّة هناك. لم يتم إنجاز الكواليس من قِبَل مهندسي مسارح، بل أن الحرب الأهلية اللبنانية بذاتها تولّت ذلك: فقد قام شلوندورف بتصوير مشاهد الفيلم في وسط مدينة بيروت المدَمّرة بالكامل والتي كانت تدور فيها معارك طاحنة.
قبل اندلاع الحرب في عام 1975 التي تسببت بغرق لبنان في الفوضى لمدة خمسة عشر سنة، كانت بيروت تُعتبر "باريس الشرق" وعاصمة الفيلم العربي إلى جانب القاهرة. باشر شلوندورف بأعمال التصوير بعد بداية الحرب بخمس سنوات ونجح بكسب برونو غانز ليلعب دور المراسل الصحفي لاشِن الذي يشكّ بمهنته بشكل متزايد، وهانا شيغولا لتلعب دور أريانا الموظفة في السفارة الألمانية. المشهد المشترك الأول لهما دار في السفارة الألمانية، لكن التصوير جرى في قاعات معهد غوته غرب بيروت.
شلوندورف رأى نفسه خَلَفاً للمخرج الإيطالي روبرتو روسيليني الذي استخدم برلين، المُدمَّرة بعد الحرب العالمية الثانية جراء القصف، مكاناً لإعداد فيلمه "ألمانيا في العام صفر". الفارق الوحيد هو أن الحرب في بيروت كانت لا تزال على قدم وساق. لإتاحة إمكانية التصوير في وسط المدينة التقى المخرج بكافة الأحزاب وأطراف النزاع واتفق معها على "وقف فني لإطلاق النار" مع أخذ الحيطة والحذر دائماً.
بين الحين والآخر كان الفيلم والواقع يندمجان: خلال التصوير في المدينة القديمة المدمَّرة كان برونو غانز مضطراً أن يولي اهتمامه ليس فقط على السيناريو، بل أيضاً على أن يجتاز مفارق الطرق ناكساً رأسه ليتحاشى بذلك طلقات القناصين. كان الأولاد الذين رأوا أشلاءً مصنوعة من البلاستيك منتشرة في مكان التصوير، يجلبون في اليوم التالي رفاتً بشرية حقيقية بغية تصويرها. في الأسابيع التي تلت انتهاء التصوير جالت هانا شيغولا الأراضي اللبنانية بحثاً عن طفل يتيم تتبنّاه، مقلّدة بذلك أريانا، شخصيتها في الفيلم. لم يتم استخدام حتى طلقات فارغة خلال التصوير بأكمله، في حين كان اللبنانيون المشاركون الذين كانوا يستلمون أدوارهم كل صباح في بيروت يصرّون على استخدام الذخيرة الحية، ليعود ويتواجد بعضهم ليلاً في صفوف مختلف الميليشيات المتواجدة على الساحة.
عمَلُ شلوندورف الذي لم يبخل في استخدام الألعاب النارية والانفجارات الإضافية يوضح اليوم للجمهور كيف كانت تبدو بيروت خلال الحرب الأهلية. فقد ترك - لأجل فيلم "التزييف" - الدخان يتصاعد مجدداً من فندق الهوليداي إن المدمر بالكامل والذي لا يزال يُعتبر رمزاً للحرب الأهلية بعدما شَهِد تنافساً شديداً خلال "حرب الفنادق" بين العامين 1975 و 1976. وسط المدينة الذي يمكن ملاحظته في الفيلم تمّ الآن جرفه وإعادة بنائه على شكل "داون تاون" فاخر.
مع العلم أن الفيلم يروي قصة خيالية فهو يُظهر بشكل مؤثر جداً الحياة اليومية في بيروت التي يهيمن عليها عنف الميليشيات. يمكن تفسير الهدنة الفنية التي تحققت وسمحت بإنجاز الفيلم، هو بأن كل ميليشيا شهدت فيه فرصة لها في تقديم تقارير إيجابية حول مجموعتها. هنا يحق للمشاهد أن يقرر بنفسه إلى أي مدى يمكن تبرير أخلاقيات فيلم شلوندورف الذي ينتقد فيه وسائل الإعلام.
من شاهد "التزييف" في ثمانينات القرن الماضي بعد صدوره، وأَمِلَ بنهاية مبكرة للحرب، خاب أمله. لأنه، كما عنوان الفيلم، كذلك أيضاً "الهدنة الفنية"، لم تكن أكثر من خداع. بعد إتمام توضيب المعدات عام 1981، اندلعت الصراعات من جديد وانتهت الهدنة وذهبت الميليشيات لتأدية نشاطاتها اليومية. بالمقابل لم يتبقّ للمخرج سوى عزاءً واحداً: "انتهى الفيلم ويستمر الواقع". لم يتم التوصل إلى أيّ هدنة في السنوات العشر التالية. واستمرت الأوضاع على حالها حتى عام 1990 حيث تم إبرام سلام طويل الأمد.